نقدٌ علمي
لمقال الكاتب فهد الأحمدي (لو كان البخاري بيننا)
بسم الله الرحمن الرحيم
دعا الكاتب فهد بن عامر الأحمدي عبر مقال في صحيفة الرياض
إلى (عدم
التحرج من مراجعة كثير من المتون القديمة على ضوء المستجدات العلمية والطبية
الحديثة) وإلى (الاعتراف بأن كثيرا من الأحاديث -التي كنا نعدها صحيحة في الماضي-
قد لا تكون كذلك في ضوء الوقائع المؤكدة أو البراهين المستجدة في عصرنا الحاضر) وعلى ضوء ذلك قام الكاتب بمراجعة عدد من
الأحاديث الصحيحة التي وصفها بقوله (يصعب في عصرنا الحاضر قبول أحاديث كثيرة أصبحت متونها
تخالف الواقع أو لا تتفق مع اكتشافات علمية جديدة أصبحت في حكم البدهي والمؤكد) .
وإذا استعرضنا الأحاديث
التي ذكرها الكاتب على أنها تخالف الواقع أو الاكتشافات العلمية البدهية أو
المؤكدة فسنجد أن سوء فهمه لهذه الأحاديث، أو سوء فهمه للواقع هو الذي أوقعه في هذا
التعارض المزعوم، وهذا بيان ذلك - مع العلم أني سأناقش أكثر الأحاديث التي أوردها
وليس جميعها خشية الإطالة، ولأن القَدر الذي ناقشتُه كافٍ في بيان عدم توافق دعواه
مع تطبيقاته - :
الحديث
الأول:
قال الكاتب (خذ كمثال حديث "إذا وقع الذباب فى إناء أحدكم فليغمسه،
فإن في احد جناحيه داء وفي الآخر دواء" الذي لم يعد مقبولا طبيا بعد اكتشاف
مسؤولية الذبابة عن نقل 42 مرضا خطيرا -ولا تصدق من يدعي وجود مضاد خارق على جناحها الآخر- !!) اهـ.
وكلامه هذا يُناقش من
وجوه:
الأول: أن في إثبات
العلم حملَ الذباب للمرض تصديقا لما جاء في هذا الحديث الذي استفدنا منه هذه
المعلومة قبل اكتشافات المختبرات الطبية.
الثاني: أين البرهنة
العلمية لانتفاء وجود (دواء) في إحدى جناحي الذباب؟ هل يستطيع الكاتب نفي ذلك
علميا؟ أم أنه مجرد استبعاد عقلي؟
الثالث: قدّم الأستاذ
الدكتور: مصطفى إبراهيم حسن - أستاذ
الحشرات الطبية/ جامعة الأزهر، ومدير مركز أبحاث ودراسات الحشرات الناقلة للأمراض-
بحثنا علميا مختبريا دقيقا أثبت فيه إعجاز هذا الحديث وموافقته لواقع البحث العلمي،
وله مادة مرئية في ذلك، وقد أرفقت رابط بحثه في آخر المقال.
فقولك يا أستاذ فهد (لا تصدق من يدعي وجود مضاد خارق على جناحها الآخر)
ليس مقدماً عندي على قول دكتور مختصّ في مجال الحشرات الطبيّة، بل قوله مقدم بلا
شك.
الرابع: وهو الرد
عليك من خلال جُملة في نفس مقالك، وهي (لو تأكد
لنا أن أحاديث كهذه خرجت من فم المصطفى صلى الله عليه وسلم لحسم الأمر، وكسرنا
المنطق وقلنا آمنا بالله ورسوله) فهل اجتهدت لتتأكد هل ثبت هذا الحديث
عن النبي صلى الله عليه وسلم لتأخذه بالتسليم أم لم يثبت؟!
الحديث
الثاني:
قال
الكاتب (وهل يسهل هذه الأيام دعوة عالم فيزياء أو فلك
لدخول الإسلام في ظل وجود أحاديث لا تراعي مقاييس الكون مثل أن يأجوج ومأجوج - بعد
أن تغلبوا على أهل الأرض - أرادوا التغلب على أهل السماء فرموا سهامهم نحو السماء
فعاد أحدهم مضرجا بالدماء..-ثم؛ من قال إن في السماء بشرا أو أن الملائكة تملك
دورة دموية- ؟!) اهـ .
دعونا نُفكّر على منطق
الكاتب:
كان المحدثون
والعلماء في السابق يظنون أن الملائكة تمتلك دورة دموية، وقد فسّروا -بحكم بساطتهم المعرفية وفي حدود ما
يسمح به عصرهم-حديث رجوع أسهم يأجوج ومأجوج مخضبة بالدماء بذلك، ثم اكتشف العلم
الحديث أن الملائكة ليست بهذه الكيفية؛ وبالتالي فهذا الحديث يعارض العلم
والاكتشافات العصريّة؛ فهو -إذاً- ضعيف!!
إنّ تحميل النصّ
معانٍ لا تحتملها، ومن ثمّ إنكار النص بناء على ذلك = خطأ لا يتحمله الحديث
ورواته!
إنّ ظهور معنى
الاستدراج والفتنة في هذا النصّ هو أقرب تفسير له، بمعنى أنهم من طغيانهم بعد أن قتلوا
غالب أهل الأرض ذهبوا يرمون سهامهم في السماء زيادة في الاستعلاء، فيستدرجهم الله
ويمدهم في طغيانهم بأن يُرجعها عليهم مخضبة دماً، حتى إذا بلغ بهم في أنفسهم النصر والطغيان مبلغه أهلكهم الله جميعاً، وهذا يُذكرنا بقول
الله (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول
فدمرناها تدميرا) وبقوله (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي
متين)
وهل يعجز اللهَ إرجاع
سهامهم –بقدرته- مخضبة دماً -وله جنود السماوات والأرض- ؟!
وإذا كان الكاتب يسير
على هذا المنطق، فليُنكِر حادثة فلق البحر لموسى عليه السلام لئلا ينفر علماء
الفيزياء والطبيعة عن الدخول في الإسلام!
وليُنكر حصب جيش
أبرهة بحجارة تحملها الطير الأبابيل!
وليُنكر إهلاك قوم
لوط بجعل عالي قريتهم سافلها!
الحديث
الثالث:
قال
الكاتب (كيف نوفق بين أحاديث تعارض الجغرافيا
والتاريخ والاكتشافات الميدانية -فضلا عن صور الأقمار الصناعية- مثل حديث خروج
النيل والفرات وسيحون وجيحون من الجنة) اهـ.
والحديث الذي يقصده
الكاتب هو ما أخرجه مسلم في صحيحه (2849) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم "سيحان وجيحان والفرات والنيل كلٌّ من أنهار الجنة"
وأناقش كلامه هذا من
وجوه:
الوجه
الأول: لماذا جعلتَ معنى
الحديث: الاتصال الحسّي بين الجنة و هذه الأنهار؟ ألم تفهم من الحديث إلا هذا
المعنى؟! ألم تقف على كلام الشُّرّاح حين ذكروا عددا من الأقوال في تفسير هذا
الحديث؟
الثاني: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما بين بيتي ومنبري
روضة من رياض الجنّة) فهل تُنكر هذا الحديث أيضاً؟ وهل اكتشفَتْ الأقمار
الصناعية عدم اتصال هذه البقعة من المسجد النبوي بجنة الخلد؟ وهل فهمتَ من هذا
الحديث معنى الاتصال الحسّي؟!
الثالث: قد ذكر ابن
حزم رحمه الله هذين الحديثين -أعني حديث الأنهار وحديث الروضة- ثم قال –كما في
كتابه المحلى/كتاب الحج-
(وهذان الحديثان ليس على ما يظنه أهل الجهل
من أن تلك الروضة قطعة منقطعة من الجنة ، وأن هذه الأنهار مهبطة من الجنة ، هذا باطل
وكذب ; لأن الله - تعالى - يقول في الجنة { إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا
تظمأ فيها ولا تضحى } فهذه صفة الجنة بلا شك وليست هذه صفة الأنهار المذكورة ولا تلك
الروضة ، ورسول الله عليه السلام لا يقول إلا الحق . فصح أن كون تلك الروضة من الجنة
إنما هو لفضلها ، وأن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة ، وأن تلك الأنهار لبركتها أضيفت
إلى الجنة ، كما تقول في اليوم الطيب : هذا من أيام الجنة ; وكما قيل في الضأن : إنها
من دواب الجنة) اهـ.
فلو كلّفت نفسك يا
أستاذ فهد شيئاً من عناء البحث لوجدت أن لأهل العلم في تفسير الحديث كلاما قديما
يخالف ما فهمته منه!
مع ملاحظة أن في كلام
ابن حزم إنكارا على ما هو دون فهم الكاتب، فإن كلام الكاتب يفهم منه الاتصال الحسي
لأنه ذكر الأقمار الصناعية، بينما يُنكر ابن حزم مجرد كون هذه البقعة وهذه الأنهار
قد اقتُطعَت من الجنة!
فكيف يُصوّر الكاتب
الحديث بمعنى واحد، ثم يردّه بسهولة دون اطلاع على كلام أهل العلم؟!
مع العلم بأن الأقوال
في شرح الحديث أكثر مما عرضتُ.
نقد
المتن بين سلامة القاعدة وعبث التطبيق
قرر الكاتب اهتمام المحدثين بنقد المتن، وهذه حسنة يُشكَر
عليها؛ لأن كثيرا من الكُتاب الجهال يتهمون المحدثين بالاكتفاء بنقد الإسناد دون
المتن، وما أخالف الكاتب فيه هو العبثية التي نشاهدها في تطبيق هذه القاعدة، وذلك
بفتح مجال تطبيقها لكل أحد، ودون ضوابط أو شروط!
وأول من وقع في خطأ التطبيق وعبثيته هو الكاتب نفسه كما
بينته في الأحاديث الثلاثة التي ناقشتها، بل وحتى في الحديثين الذين ذكرهما في
المقال ولم أناقشهما وهما حديث: بول الإبل - وقد نوقش سابقا في إحدى حلقات كامل
الصورة بعنوان (ما ذا سينقصنا لو ألغيت الأحاديث؟) -، وحديث قرني الشيطان، وليته
ذكر ولو مثالا واحدا صحيحاً يوافق قاعدة نقد المتن، وذلك كحديث ابن عباس في زواج
النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة وهو محرم.
وهذه الأخطاء في التطبيق تدفعنا إلى سؤال آخر، وهو: من يوقف
هذا العبث بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم؟!
البخاري
ونقد المتن
يقول الكاتب ( الإمام البخاري لم يتحرج من غربلة الأحاديث والمتون
التي تراكمت قبل عصره بسنين..) وذكر أنّ البخاري (رد 296 ألف حديث من بين 300 ألف كان يحفظها، مكتفيا بتدوين
أربعة آلاف فقط في صحيحه المعروف)
ومناقشة هذا الكلام
من وجوه:
الوجه
الأول: من الذي قال بأن
البخاري يَرُدّ الأحاديث التي لم يُخرجها في صحيحه؟ ألم تعلم بأن ابن عدي رحمه
الله قد قال في كتابه الكامل 1/197
ط.الرسالة (سمعت الحسن بن
الحسين البزار يقول: سمعت إبراهيم بن معقل النسفي يقول: سمعت البخاري يقول: ما
أدخلتُ في كتاب الجامع إلا ما صحّ، وتركتُ من الصحيح حتى لا يطول)، وروى
الإسماعيلي عنه أنه قال (لم أُخرّج في هذا الكتاب إلا صحيحاً، وما تركتُ من
الصحيح أكثر)! انظر هدي الساري لابن
حجر (1/10ط. طيبة).
إن البخاري نفسه قد حكم على أحاديث كثيرة بالصحة
مما لم يُخرجه في صحيحه، وكتاب (العلل الكبير) حافل بنقل مؤلفه الترمذي عن شيخه
البخاري أحكاما بصحة أحاديث لم يُخرّجها في كتابه الصحيح!
وأخيراً: هل يعرف
الكاتب أن اسم صحيح البخاري (الجامع المسند الصحيح المختصر)؟!
الوجه الثاني: إن فهم
الكاتب لعدد (300) ألف حديث بأنه عدد المتون = فهم خاطئ ، فهم كانوا يسمون كل
إسناد من الأسانيد المتعددة للمتن الواحد حديثاً، وبعضهم كان يُطلق على آُثار
الصحابة أحاديث أيضاً!
والعجيب أن ابن عدي
قد أخرج في الكامل (1/97) عن البخاري قوله (أحفظ مئة ألف حديث صحيح، واحفظ مئتي
ألف حديث غير صحيح)
والمقصود فيها أيضاً
كثرة الأسانيد وإلا فالمتون الصحيحة لا تصل لمائة ألف حديث بحال من الأحوال.
وختاماً، فإني أحيل
في مزيد من نقاط البحث حول صحيح البخاري ونقده إلى حلقةٍ مرئية قدمتُها -على يوتيوب-
بعنوان (مشكلة عدنان إبراهيم مع صحيح البخاري..عرض ونقد) على هذا الرابط/
رابط بحث الدكتور مصطفى
إبراهيم حسن بشأن الذباب
وصلّ اللهم على نبينا
محمد وآله، وسلّم
الجمعة 28 محرم 1436 هـ
الجمعة 28 محرم 1436 هـ