الخميس، 20 نوفمبر 2014

نقدٌ علمي لمقال الكاتب فهد الأحمدي (لو كان البخاري بيننا)

نقدٌ علمي لمقال الكاتب فهد الأحمدي (لو كان البخاري بيننا)
بسم الله الرحمن الرحيم
دعا الكاتب فهد بن عامر الأحمدي عبر مقال في صحيفة الرياض إلى (عدم التحرج من مراجعة كثير من المتون القديمة على ضوء المستجدات العلمية والطبية الحديثة) وإلى (الاعتراف بأن كثيرا من الأحاديث -التي كنا نعدها صحيحة في الماضي- قد لا تكون كذلك في ضوء الوقائع المؤكدة أو البراهين المستجدة في عصرنا الحاضر) وعلى ضوء ذلك قام الكاتب بمراجعة عدد من الأحاديث الصحيحة التي وصفها بقوله (يصعب في عصرنا الحاضر قبول أحاديث كثيرة أصبحت متونها تخالف الواقع أو لا تتفق مع اكتشافات علمية جديدة أصبحت في حكم البدهي والمؤكد) .
وإذا استعرضنا الأحاديث التي ذكرها الكاتب على أنها تخالف الواقع أو الاكتشافات العلمية البدهية أو المؤكدة فسنجد أن سوء فهمه لهذه الأحاديث، أو سوء فهمه للواقع هو الذي أوقعه في هذا التعارض المزعوم، وهذا بيان ذلك - مع العلم أني سأناقش أكثر الأحاديث التي أوردها وليس جميعها خشية الإطالة، ولأن القَدر الذي ناقشتُه كافٍ في بيان عدم توافق دعواه مع تطبيقاته - :
الحديث الأول:
قال الكاتب (خذ كمثال حديث "إذا وقع الذباب فى إناء أحدكم فليغمسه، فإن في احد جناحيه داء وفي الآخر دواء" الذي لم يعد مقبولا طبيا بعد اكتشاف مسؤولية الذبابة عن نقل 42 مرضا خطيرا -ولا تصدق من يدعي وجود مضاد خارق على جناحها الآخر- !!) اهـ.
وكلامه هذا يُناقش من وجوه:
الأول: أن في إثبات العلم حملَ الذباب للمرض تصديقا لما جاء في هذا الحديث الذي استفدنا منه هذه المعلومة قبل اكتشافات المختبرات الطبية.
الثاني: أين البرهنة العلمية لانتفاء وجود (دواء) في إحدى جناحي الذباب؟ هل يستطيع الكاتب نفي ذلك علميا؟ أم أنه مجرد استبعاد عقلي؟
الثالث: قدّم الأستاذ الدكتور:  مصطفى إبراهيم حسن - أستاذ الحشرات الطبية/ جامعة الأزهر، ومدير مركز أبحاث ودراسات الحشرات الناقلة للأمراض- بحثنا علميا مختبريا دقيقا أثبت فيه إعجاز هذا الحديث وموافقته لواقع البحث العلمي، وله مادة مرئية في ذلك، وقد أرفقت رابط بحثه في آخر المقال.
فقولك يا أستاذ فهد (لا تصدق من يدعي وجود مضاد خارق على جناحها الآخر) ليس مقدماً عندي على قول دكتور مختصّ في مجال الحشرات الطبيّة، بل قوله مقدم بلا شك.
الرابع: وهو الرد عليك من خلال جُملة في نفس مقالك، وهي (لو تأكد لنا أن أحاديث كهذه خرجت من فم المصطفى صلى الله عليه وسلم لحسم الأمر، وكسرنا المنطق وقلنا آمنا بالله ورسوله) فهل اجتهدت لتتأكد هل ثبت هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لتأخذه بالتسليم أم لم يثبت؟!
الحديث الثاني:
قال الكاتب (وهل يسهل هذه الأيام دعوة عالم فيزياء أو فلك لدخول الإسلام في ظل وجود أحاديث لا تراعي مقاييس الكون مثل أن يأجوج ومأجوج - بعد أن تغلبوا على أهل الأرض - أرادوا التغلب على أهل السماء فرموا سهامهم نحو السماء فعاد أحدهم مضرجا بالدماء..-ثم؛ من قال إن في السماء بشرا أو أن الملائكة تملك دورة دموية- ؟!) اهـ .
دعونا نُفكّر على منطق الكاتب:
كان المحدثون والعلماء في السابق يظنون أن الملائكة تمتلك دورة دموية،  وقد فسّروا -بحكم بساطتهم المعرفية وفي حدود ما يسمح به عصرهم-حديث رجوع أسهم يأجوج ومأجوج مخضبة بالدماء بذلك، ثم اكتشف العلم الحديث أن الملائكة ليست بهذه الكيفية؛ وبالتالي فهذا الحديث يعارض العلم والاكتشافات العصريّة؛ فهو -إذاً- ضعيف!!
إنّ تحميل النصّ معانٍ لا تحتملها، ومن ثمّ إنكار النص بناء على ذلك = خطأ لا يتحمله الحديث ورواته!
إنّ ظهور معنى الاستدراج والفتنة في هذا النصّ هو أقرب تفسير له، بمعنى أنهم من طغيانهم بعد أن قتلوا غالب أهل الأرض ذهبوا يرمون سهامهم في السماء زيادة في الاستعلاء، فيستدرجهم الله ويمدهم في طغيانهم بأن يُرجعها عليهم مخضبة دماً، حتى إذا بلغ بهم  في أنفسهم النصر والطغيان  مبلغه أهلكهم الله جميعاً، وهذا يُذكرنا بقول الله (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمرناها تدميرا) وبقوله (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين)
وهل يعجز اللهَ إرجاع سهامهم –بقدرته- مخضبة دماً -وله جنود السماوات والأرض- ؟!
وإذا كان الكاتب يسير على هذا المنطق، فليُنكِر حادثة فلق البحر لموسى عليه السلام لئلا ينفر علماء الفيزياء والطبيعة عن الدخول في الإسلام!
وليُنكر حصب جيش أبرهة بحجارة تحملها الطير الأبابيل!
وليُنكر إهلاك قوم لوط بجعل عالي قريتهم سافلها!
الحديث الثالث:
قال الكاتب (كيف نوفق بين أحاديث تعارض الجغرافيا والتاريخ والاكتشافات الميدانية -فضلا عن صور الأقمار الصناعية- مثل حديث خروج النيل والفرات وسيحون وجيحون من الجنة) اهـ.
والحديث الذي يقصده الكاتب هو ما أخرجه مسلم في صحيحه (2849) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سيحان وجيحان والفرات والنيل كلٌّ من أنهار الجنة"
وأناقش كلامه هذا من وجوه:
الوجه الأول: لماذا جعلتَ معنى الحديث: الاتصال الحسّي بين الجنة و هذه الأنهار؟ ألم تفهم من الحديث إلا هذا المعنى؟! ألم تقف على كلام الشُّرّاح حين ذكروا عددا من الأقوال في تفسير هذا الحديث؟
الثاني: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة) فهل تُنكر هذا الحديث أيضاً؟ وهل اكتشفَتْ الأقمار الصناعية عدم اتصال هذه البقعة من المسجد النبوي بجنة الخلد؟ وهل فهمتَ من هذا الحديث معنى الاتصال الحسّي؟!
الثالث: قد ذكر ابن حزم رحمه الله هذين الحديثين -أعني حديث الأنهار وحديث الروضة- ثم قال –كما في كتابه المحلى/كتاب الحج-
(وهذان الحديثان ليس على ما يظنه أهل الجهل من أن تلك الروضة قطعة منقطعة من الجنة ، وأن هذه الأنهار مهبطة من الجنة ، هذا باطل وكذب ; لأن الله - تعالى - يقول في الجنة { إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } فهذه صفة الجنة بلا شك وليست هذه صفة الأنهار المذكورة ولا تلك الروضة ، ورسول الله عليه السلام لا يقول إلا الحق . فصح أن كون تلك الروضة من الجنة إنما هو لفضلها ، وأن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة ، وأن تلك الأنهار لبركتها أضيفت إلى الجنة ، كما تقول في اليوم الطيب : هذا من أيام الجنة ; وكما قيل في الضأن : إنها من دواب الجنة) اهـ.
فلو كلّفت نفسك يا أستاذ فهد شيئاً من عناء البحث لوجدت أن لأهل العلم في تفسير الحديث كلاما قديما يخالف ما فهمته منه!
مع ملاحظة أن في كلام ابن حزم إنكارا على ما هو دون فهم الكاتب، فإن كلام الكاتب يفهم منه الاتصال الحسي لأنه ذكر الأقمار الصناعية، بينما يُنكر ابن حزم مجرد كون هذه البقعة وهذه الأنهار قد اقتُطعَت من الجنة!
فكيف يُصوّر الكاتب الحديث بمعنى واحد، ثم يردّه بسهولة دون اطلاع على كلام أهل العلم؟!
مع العلم بأن الأقوال في شرح الحديث أكثر مما عرضتُ.

نقد المتن بين سلامة القاعدة وعبث التطبيق
قرر الكاتب اهتمام المحدثين بنقد المتن، وهذه حسنة يُشكَر عليها؛ لأن كثيرا من الكُتاب الجهال يتهمون المحدثين بالاكتفاء بنقد الإسناد دون المتن، وما أخالف الكاتب فيه هو العبثية التي نشاهدها في تطبيق هذه القاعدة، وذلك بفتح مجال تطبيقها لكل أحد، ودون ضوابط أو شروط!
وأول من وقع في خطأ التطبيق وعبثيته هو الكاتب نفسه كما بينته في الأحاديث الثلاثة التي ناقشتها، بل وحتى في الحديثين الذين ذكرهما في المقال ولم أناقشهما وهما حديث: بول الإبل - وقد نوقش سابقا في إحدى حلقات كامل الصورة بعنوان (ما ذا سينقصنا لو ألغيت الأحاديث؟) -، وحديث قرني الشيطان، وليته ذكر ولو مثالا واحدا صحيحاً يوافق قاعدة نقد المتن، وذلك كحديث ابن عباس في زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة وهو محرم.
وهذه الأخطاء في التطبيق تدفعنا إلى سؤال آخر، وهو: من يوقف هذا العبث بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم؟!
البخاري ونقد المتن
يقول الكاتب ( الإمام البخاري لم يتحرج من غربلة الأحاديث والمتون التي تراكمت قبل عصره بسنين..) وذكر أنّ البخاري (رد 296 ألف حديث من بين 300 ألف كان يحفظها، مكتفيا بتدوين أربعة آلاف فقط في صحيحه المعروف)
ومناقشة هذا الكلام من وجوه:
الوجه الأول: من الذي قال بأن البخاري يَرُدّ الأحاديث التي لم يُخرجها في صحيحه؟ ألم تعلم بأن ابن عدي رحمه الله قد قال في كتابه الكامل 1/197 ط.الرسالة (سمعت الحسن بن الحسين البزار يقول: سمعت إبراهيم بن معقل النسفي يقول: سمعت البخاري يقول: ما أدخلتُ في كتاب الجامع إلا ما صحّ، وتركتُ من الصحيح حتى لا يطول)، وروى الإسماعيلي عنه أنه قال (لم أُخرّج في هذا الكتاب إلا صحيحاً، وما تركتُ من الصحيح أكثر)! انظر هدي الساري لابن حجر (1/10ط. طيبة).
 إن البخاري نفسه قد حكم على أحاديث كثيرة بالصحة مما لم يُخرجه في صحيحه، وكتاب (العلل الكبير) حافل بنقل مؤلفه الترمذي عن شيخه البخاري أحكاما بصحة أحاديث لم يُخرّجها في كتابه الصحيح!
وأخيراً: هل يعرف الكاتب أن اسم صحيح البخاري (الجامع المسند الصحيح المختصر)؟!
الوجه الثاني: إن فهم الكاتب لعدد (300) ألف حديث بأنه عدد المتون = فهم خاطئ ، فهم كانوا يسمون كل إسناد من الأسانيد المتعددة للمتن الواحد حديثاً، وبعضهم كان يُطلق على آُثار الصحابة أحاديث أيضاً!
والعجيب أن ابن عدي قد أخرج في الكامل (1/97) عن البخاري قوله (أحفظ مئة ألف حديث صحيح، واحفظ مئتي ألف حديث غير صحيح)
والمقصود فيها أيضاً كثرة الأسانيد وإلا فالمتون الصحيحة لا تصل لمائة ألف حديث بحال من الأحوال.

وختاماً، فإني أحيل في مزيد من نقاط البحث حول صحيح البخاري ونقده إلى حلقةٍ مرئية قدمتُها -على يوتيوب- بعنوان (مشكلة عدنان إبراهيم مع صحيح البخاري..عرض ونقد) على هذا الرابط/
رابط بحث الدكتور مصطفى إبراهيم حسن بشأن الذباب

وصلّ اللهم على نبينا محمد وآله، وسلّم


الجمعة 28 محرم 1436 هـ

الثلاثاء، 14 أكتوبر 2014

سلسلة مرحلة ما قبل الغلو (3) .. مسألة العذر بالجهل.. رؤية منهجية نفسية


مسألة العذر بالجهل.. رؤية منهجيّة نفسيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبي الله محمد ، أما بعد:
إن قضية الإعذار بالجهل -في المباحث العقدية- لَمِن القضايا ذات الجدل الكبير في التاريخ المعاصر، مع أنها لم تكن كذلك في قرون علمية سابقة، وإن من غير المستغرب أن يَتوجّه اهتمام أهل عصر من العصور إلى قضايا علمية تختلف عن القضايا محل الاهتمام في عصر آخر؛ إذْ تختلف المُعطَيات في كل عصر، غير أن المستنكر -حقّاً- هو أن يُلحَق بأصول الإسلام والمِلّة ما ليس منها؛ فهذا دأب أهل البدع، الذين ابتدعوا أصولاً غير إسلامية فألحقوها بأصول الإسلام ثم أقاموا الولاء والبراء على هذه الأصول؛ وقد يكون لبعض هذه المسائل أصل شرعي ولكنّ محلّها الصحيح أن تكون من قضايا الاختلاف أو الاجتهاد لا من أصول الإسلام وأركان الديانة!
ولذا؛ كان من مما تميز  به منهج أهل السنة والجماعة عن المناهج الأخرى أنهم منضبطون في تحديد أصول الإسلام بناء على أدلة الكتاب والسنة.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى (في القران والحكمة النبوية عامّة أصول الدين من المسائل والدلائل التي تستحق أن تكون أصول الدين)[1]
مسألة العذر بالجهل لا تخفى على طالب علم!!
يرى البعض أن من أصول الدين الإسلامي الواضحة لكل ناظر في العلم ، و التي لا تقبل النقاش: عدم إعذار  من وقع في الشرك جهلاً ممن ينتسب للإسلام، ويرى أنه مما يُزري بالعالم أو طالب العلم أن تُشكِل عليه هذه المسألة فيتوقفَ فيها أو يطيل البحث والتأمل، فضلاً عن أن ينتهي قوله فيها إلى الإعذار،
في حين أنك تجد تقريرات علميّة -من الطرفين: العاذر وغير العاذر- فيها نصّ على أن هذه المسألة عويصة، وفيها التباس! وممن قال بذلك من الذين يرون العذر بالجهل في الشرك : الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى حيث قال:
(وهذه المسألة -أعني مسألة العذر بالجهل- مسألة عظيمة شائكة، وهي من أعظم المسائل تحقيقاً وتصويراً، فمن النَّاس من أطلق وقال: لا يعذر بالجهل في أصول الدين كالتَّوحيد؛ فلو وجدنا مسلماً في بعض القرى أو البوادي النائية يعبد قبراً أو ولياً، ويقول: إنه مسلم، وإنه وجد آباءه على هذا ولم يعلم بأنه شرك فلا يعذر، والصحيح أنه لا يكفر)[2] اهـ.
وتجد في المقابل  -أيضاً- مثلُ هذا الوصف؛ فقد قال الشيخ علي الخضير  -وهو من الذين انتصروا بقوة للقول بعدم الإعذار بالجهل في الشرك- في شرحه (المعتصر) على كتاب التوحيد: (الجهل هل هو عذر في الشرك الأكبر أم ليس بعذر؟ وهذه مسألة من أشد المسائل، وهي مسألة عويصة، وهي من أصعب المسائل في التوحيد، وهذه المسألة كثر فيها الخلاف وفيها التباس كثير)[3] اهـ. ولك أن تقارن بين هذه النظرة لقضية العذر بالجهل وبين النظرة التي تجعلها من أوضح الواضحات التي لا تخفى على أصغر طالب علم!
العذر بالجهل بين انحرافين
لا تُخطئ عين الناقد رؤية انفلاتٍ علميٍ عند طائفة من المنتسبين للعلم الشرعي في قضية الإعذار بالجهل، بحيث يكاد يكون الإعذار بالجهل عندهم أصلاً مطّرداً في جميع الأحوال والقضايا والأعيان، حتّى أنك تجدهم يُلْبِسُون المعاند المتكبر ثوب الجاهل ليعذروه بذلك! ويعذرون بالجهل في أحوال لا يُتَصور فيها الجهل! وهذا الانفلات - والله أعلم- هو من مسببات الغلوّ في الجهة الأخرى، فإنك ترى -أيضا- تجاوزاً كبيراً ومبالغة ظاهرة  في قضية عدم الإعذار بالجهل، وذلك بإلحاقها بأصول الإسلام وإنزالها منزلة ليست لها، فتجد من يجعل هذه القضية في أول درجة من درجات سلم طلب العلم قبل إدراك فقه الأدلة والاستدلال؛ وربما لو سُئل بعضهم: ما أول واجب على المكلف؟ لقال: معرفة التوحيد والشرك ومسألة العذر بالجهل! ولو سألتَ بعض غلاتهم: مَن الموحّد؟ لقال: الموحّد هو من يعبد الله ولا يشرك به شيئا ولا يعذر بالجهل! وسيظهر من خلال هذه الورقة -بإذن الله- خطأ هذا القول.

حقيقة قول العاذرين بالجهل في أبواب الاعتقاد
إن التصور الخاطئ لحقيقة الخلاف في مسألة العذر بالجهل لَمِن أهم أسباب الانحراف في تقييم هذه المسألة والموقف من المخالفين فيها، فالذي يرى أن العاذر بالجهل لم يَكْفُر بالطّاغوت، أو يرى أن العاذر بالجهل لم يفهم أصل دينه، أو لم يُفرّق بين الإسلام والكفر فإنه لم يفهم حقيقة الخلاف في هذه المسألة.
إن تصوير موقف العاذر بالجهل في أبواب الشرك بأنه لا يُكفّر المشركين  غير صحيح، ولك أن تسأله عن أي مشرك في الأرض ممن لا يقول لا إله إلا الله هل يرى أنه مسلم؟ لا شك أنه سيجيبك بأنه مشرك سواء أكان جاهلا أم غير جاهل.
وإنما الذي يُشكِل عليه -من أصناف الواقعين في الشرك- هم من قام في حقهم معارض معتبر له أصول شرعية كالنطقِ بالشهادتين والعملِ بأركان الإسلام.
فالذي يعذر من ينطق بالشهادتين ممن يدعو غير الله أو يذبح لغيره -جاهلاً- إنما نظر في مجموع الأدلة محاولاً التوفيق بينها، فكأنه يقول: إنه يؤمن بأن دعاء غير الله شرك، والذبح لغيره شرك، ولكنه:
- يجد في نصوص الشرع أن من شهد الشهادتين وعمل بالأركان فإنه يدخل الجنة.
- ويجد في نصوص الشرع إعذار طائفة من المسلمين وقعوا في أمور كفرية كالذي أمر أبناءه بتحريقه وذرّه بعد موته خوفاً من الله لأنه ظن أنهم إن فعلوا به ذلك فإن الله لا يقدر على بعثه، وهذا كفر، ولكن الله عذره وعفا عنه. والخبر  في ذلك في الصحيحين[4]
- ويجد في نصوص كثير من العلماء بالشرع إعذاراً صريحاً لمن وقع في الشرك جهلاً.
- ويجد في نصوص الشرع تحذيرا شديداً من تكفير المسلمين.
- ويرى أن نصوص الوعيد قد جاءت مطلقة في الشرع وأنها لا تنطبق على الشخص المعين إلا بتوفر شروط وانتفاء موانع كما هي طريقة أهل السنة في نصوص الوعيد بشكل عام.
فمجموع هذه الأدلة حمله على تقديم الإعذار مع إقراره بأن هذا العمل شركٌ.
فهل يُقال بعد ذلك إنه لا يُفرِّق بين الإسلام والكفر؟ أو أنه لا يكفر بالطاغوت؟ أو لا يُكفّر المشركين؟!
إنّ مما يدلّ على خطأ هذا التصور أنك تجد طائفة من أهل العلم يعذرون من وقع في الشرك جهلاً فلا يُكفّرونه، مع أنهم قد بينوا أبواب التوحيد خير بيان، وحذروا من الشرك أعظم تحذير، ونشروا أدلة ذلك، وأجابوا عن الإشكالات والشبهات التي تُثار في أبواب توحيد العبادة، وأوذوا في سبيل ذلك ورُموا بكل نقيصة ؛ فهل يقال في حقهم إنهم لم يفهموا التوحيد؟ أو لم يفرقوا بين الإسلام والشرك لأنهم يعذرون المعين الجاهل؟!!
فابن تيمية -مثلاً-  ألف كتابه الفذّ (الاستغاثة) الذي أجاب فيه عن شبهات من يتعلّقون بغير الله بالدعاء والاستغاثة ونحو ذلك،  وقرّر فيه التوحيد بالبراهين الجليّة، وذكر في الكتاب ما تعرض له من الأذى على يد مخالفيه من القبوريين، ومع ذلك؛ قال في نفس الكتاب: (ولا يستطيع أحد أن ينقل عن أحد من الصحابة ولا من السلف أنهم بعد موته (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) طلبوا منه إغاثة ولا نصرا ولا إعانة ولا استسقوا بقبره ولا استنصروا به كما كانوا يفعلون ذلك في حياته، ولا فعل ذلك أحد من أهل العلم والإيمان، وإنما يحكى مثل ذلك عن أقوام جهال أتوا قبره فسألوه بعض الأطعمة أو استنصروه على بعض الظلمة، فحصل بعض ذلك؛ وذلك لكرامته على ربه ولحفظ إيمان أولئك الجهال؛ فإنهم إذا لم تقض حاجتهم وقع في قلوبهم الشك وضعف إيمانهم، أو وقع منهم إساءة أدب، ونفسُ طلبهم الحاجات من الأموات = هو إساءة أدب، فقضى الله حاجتهم لئلا يضعف إيمانهم به وبما جاء به لئلا يرتدوا عن الإيمان فإنهم كانوا قريبي عهد بإيمان)[5] فهو يقرر هنا أن عن هؤلاء المستغيثين بغير الله الجهال إيمانا؛ فهل يُقال لأجل هذا الكلام: إن ابن تيمية رحمه الله لا يفرق بين الإسلام والكفر؟! ولا يفهم أصل دينه. والنقول عن ابن تيمية في هذا الباب كثيرة جداً، لا يسع المقام المختصر لنقلها.
وأظهرُ من ذلك: ما قاله الإمام عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، -رحمه الله تعالى- والذي ألف كتاباً في بيان التوحيد والشرك، والفرقان بينهما، قَلّ أن تجد له نظيراً في تحريره وفوائده، وهو (رفعُ الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله) وقد قال فيه (فنحن وإن قلنا في صورة من صور السؤال ونحوها إن هذا الدعاء لغير الله تعالى عبادة وشرك، فليس مقصودنا أن من فعل ذلك يكون مشركاً، وإنما يكون مشركاً من فعل ذلك غير معذور، فأما من فعله معذوراً فلعله يكون من خيار عباد الله تعالى وأفضلهم وأتقاهم)[6] ! ويقصد بقوله (لعله يكون من خيار..) أن المرء قد يكون صالحاً في نفسه، من الخيار، إلا أنه قد يقع في الخطأ الكبير جاهلاً معذوراً، فلا يكون كمن انحرف عن الصراط عالماً عامداً، وعلى كل حال فالمراد من نقل كلام الإمام المعلمي رحمه الله هو بيان أن من أهل العلم من حرّر مسائل التوحيد وبيّن الشرك، ثم تجده بعد ذلك يعذر من وقع فيه جاهلا، فيرى أنه مسلم مخطئ معذور على خطئه مع صلاحه في نفسه.
وإذا كان بعض من يغلو في عدم الإعذار بالجهل يُكفّر العاذرين به؛ فماذا سيقول في المُعلّمي الذي تجاوز مجرد الإعذار إلى قوله بإمكانية أن يكون بعض من وقع في الشرك جاهلاً من خيار عباد الله!
فإن كان يرى كُفرَه فهذا شذوذ لا تجد له عليه موافقاً واحداً من أهل العلم، وإن كان يرى ضلاله وانحرافه وجهله فهذا مخالف لما شهد له به علماء السنّة من تقدمه في العلم وتميزه وبصيرته، وأنه قد عزَّ نظيره في عصره -رحمه الله-.
وقُل مثل ذلك في الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله تعالى وهو ممن شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقد ذكر كلاماً يبين فيه حقيقة قول العاذرين وذلك في مناظرة أجراها على لسان شخصين اختلفا في الجاهل، وأظهرَ قول العاذر على غير العاذر، فكان مما قال: ( ما ذكرت من دلالة الكتاب والسنة والإجماع على أن دعاء غير الله والاستغاثة به شرك وكفر مخلد في النار ، فهذا لا شك فيه ولا ريب وما ذكرته من مساواة جهلة اليهود والنصارى وجميع الكفار الذين لا يؤمنون بالرسول ولا يصدقونه بجهلة من يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويعتقد صدق كل ما قاله في كل شيء ويلتزم طاعته ثم يقع منه دعاء لغير الله وشرك به وهو لا يدري ولا يشعر أنه من الشرك بل يحسبه تعظيمًا لذلك المدعو مأمورًا به ، وما ذكرته من مساواة بين هذا وبين ذاك فإنه خطأ واضح دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان على التفريق بين الأمرين، فإنه من المعلوم من الدين بالضرورة كفر جهال اليهود والنصارى وجميع أصناف الكفار وهذا أمر لا يمكن إنكاره ، وأما من كان مؤمنا بالرسول ومصدقا له في كل ما قاله، وملتزما لدينه ثم وقع منه خطأ في الاعتقاد أو القول والعمل جهلًا أو تقليدًا أو تأويلا فإن الله يقول : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " عفا عن أمته الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه في المقالة والاعتقاد وإن كان كافرًا.
ويقال من اعتقدها أو عمل بها فهو كافر لكن قد يقع ويوجد مانع في بعض الأشخاص يمنع من تكفيره لعدم علمه أنه كفر وشرك فيوجب لنا التوقف في إطلاق الكفر على عينه، وإن كنا لا نشك أن المقالة كفر لوجود ذلك المانع المذكور وعلى هذا عمل الصحابة والتابعين في البدع ) [7]
وليس مرادي هنا سياق أقوال العاذرين ولا أقوال غير العاذرين، وإنما المراد بيان خطأ من يقول: إن من يعذر بالجهل لا يفرق بين الإسلام والكفر، أو لم يعرف أصل دينه!
المنطلقات والآثار النفسية
إن الدخول في مسـألة العذر بالجهل بطريقة خاطئة يفتح للمرء بوابة الغلو في التكفير على مصراعيها، وإن للغلوّ في هذه المسألة أثراً غريباً على طريقة تفكير المرء وعلى نظره في أحكام الشرع ومسائله، وعلى سلوكه مع من يخالفه في هذه القضية، بل وحتى على سلوكه الشخصي! وليس هذا خاصاً بمسألة العذر بالجهل؛ فإنك تجد مثل هذا الأثر فيمن يغلو في بعض الأفكار الأخرى.
إن الدخول في مسألة العذر بالجهل باندفاع غير مبني على علم وما يسببه من نظرة غاليةً في هذه المسألة، يكوّن خوفاً ذاتيّاً زائداً من الوقوع في الكفر، يدفع إلى التعامل مع مسائل التكفير بدافع نفسي أكثر من كونه علميا، وذلك لأن الغلو في هذه المسألة يلغي دائرة موانع التكفير -عملياً- ويعزز فكرة سهولة الوقوع في الكفر ، ويوسع من دائرة أصول الدين والمسائل الظاهرة، فـ(كل ناقض من النواقض يعتبر –عنده- مسألة ظاهرة+كل مسألة ظاهرة لا يعذر فيها بالجهل=كفر مباشرة) ويدفعه هذا -أحياناً- إلى تكفير نفسه، فتجده يُكفّر نفسه ثم يعود للإسلام، ويتوسع في تكفير من حوله بطريقة شاذّة، وتصبح مسألة العذر بالجهل -عنده- أم المسائل، والتحقيق فيها هو رأس العلم.
وقد يدفعه الحرص الزائد على تقحّم المسائل الكبار المتعلقة بالتكفير مهما كانت مُشكلة، يريد أن يكون له فيها قول، فتجده يتكلف الدخول في كل مسألة من هذه المسائل، ولا ينتهي من مسألة حتى يغوص في أخرى، ويبقى في دوامات هذه المسائل غير خارج منها، كل هذا خشية الوقوع في الكفر، لأن دائرة أصول الدين -عنده- يدخل فيها كثير من المسائل التي ليست عند أهل العلم كذلك.
-           وإذا دخل  في مسألة اختلف العلماء فيها هل هي من الكفر أم لا، تجده يرجح قول من يرى أنها كفر، ويتعلق بقول من قال بذلك من أهل العلم عند المحاجة والمناظرة، ليس لقوة الحجة، وإنما خوفا من الوقوع في الكفر، أو ميلاً إلى أصل عدم الإعذار!
-          وإذا اختلف العلماء في مسألة: هل هي من الشرك الأكبر أم الأصغر  تجده يرجح كونها من الشرك الأكبر، ليس لقوة الدليل، وإنما رهبة من الإرجاء أو الكفر!
-          ولا تجده يتوقف في مسألة من هذا الجنس، ولا يقرّ له بال حتى يحكم بالكفر فيها!
ومن الخلل السلوكي:
-          أنك تجده يتعامل بالشك مع من لا يعرف قوله في مسألة العذر بالجهل، فلا يواليه تمام الموالاة حتى يعلم أنه لا يعذر بالجهل، فإذا علم ذلك منه انبسط له وجهه، واجتمع على حبه قلبُه، بعد أن كان يجد من مخالطته قلقا وشكا!
-          ومن ذلك ازدراؤه كلّ من يخالفه في هذه المسألة مهما كان عالماً، فإذا ذُكر هذا العالم بثناء أو تعظيم، قال: (ولكنه يعذر بالجهل).
-          ومن ذلك إلحاقه قضية العذر بالجهل في التعرف على طلاب العلم والعلماء أو التعريف بهم.
·        هذا الشيخ فلان بن فلان وهو لا يعذر بالجهل!
·        من الشيخ فلان؟ هل يعذر بالجهل؟
وهذا كله مبني على بواعث نفسية أكثر من كونها دوافع علمية، والله تعالى أعلم.

رفعُ الجهل والتحذير من الشرك والكفر
ما ذا لو بُذل من الوقت والجهد في التحذير من الشرك ومن نواقض الإسلام مثل الوقت والجهد الذي بُذل في الخلاف في مسألة العذر بالجهل؟ وما ذا لو توجّه الحرص والجهد للتحذير من الجهل، ومحاربته، ورفعه بنشر العلم وبثه؟
ألا يكون هذا أقرب لهدي المرسلين عليهم سلام الله أجمعين؟!
كان الأنبياء يخاطبون أقوامهم المشركين -في مَقام الدعوة- باللين والحجة رأفة ورحمة بهم، ويظهرون الشفقة عليهم في الخطاب، فتجد كل نبي من الأنبياء يقول: (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم)، ولك أن تقف متأملاً عند قول الله تعالى لموسى وهارون في دعوتهما لمن ادعى الربوبية -فرعون- (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى).
وختاماً، فإني لم أكتب هذا المقال لأجيب عن السؤال المعروف: هل يعذر المرء الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إذا وقع في شيء من الشرك جاهلا أو مقلداً أم لا يعذر؟ فإن هذه المسألة قد قُتِلَت بحثاً، وصُنّفَ فيها من المصنفات ما يصعب حصره، وإنما لمحاولة إنزال هذه المسألة منزلتها، ولكسر حدّة من يجعلها من أصول الإسلام التي لا يُعذَر فيها المخالف، ولبيان آثار الغلوّ في هذه المسألة على النفس والتصور والسلوك، فإن أصبتُ فالحمد لله وحده، وإن أخطأت فكل ابن آدم خطّاء.. ومن بدا له تقويمٌ لشيء من هذا المقال فليكتبه لي جزاه الله خيراً.





[1] مجموع الفتاوى 3/303
[2] الشرح الممتع 6/193
[3] المعتصر - ص 4 - في شرحه لمقدمة كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
[4] صحيح البخاري (3481) صحيح مسلم (2756)
[5] الاستغاثة (الرد على البكري) لابن تيمية 1/201
[6] رفع الاشتباه  ص 726 ، المجلد الثالث ضمن مجموع آثار المعلمي.
[7] الفتاوى السعدية ، (ص579 – 580)

الأربعاء، 20 أغسطس 2014

المقال الثاني من سلسلة (مرحلة ما قبل الغلو) .

بسم الله الرحمن الرحيم
المقال الثاني من سلسلة (مرحلة ما قبل الغلو)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فقد ذكرت في المقال السابق الضابط الأول لقاعدة (من لم يكفر الكافر فهو كافر) وذكرت أن سوء الفهم لهذه القاعدة هو من أكبر ما ولّد الاضطراب والغلو لدى كثير من الشباب في أبواب التكفير، وتقدم معنا أن الضابط الأول لهذه القاعدة هو: أنها ليست شاملة لجميع أنواع الكفار، وبالتالي نحن نحتاج إلى بيان من يدخل فيها من الكفار ممن لا يدخل،
الضابط الثاني: لا بد من فهم أصل هذه القاعدة وتحرير مناط الكفر فيها:
حين يقول أهل العلم (من لم يكفر الكافر فهو كافر) فما مستندهم في ذلك؟ وما دليلهم؟
لقد نصّ غير واحد من العلماء في سياق كلامهم عن هذه القاعدة على مناطٍ[1] يصلح أن يُعلق عليه حكمها، وهو:  (تكذيب خبر الله أو خبر رسوله صلى الله عليه وسلم أو التكذيب بأمر قطعي في الشريعة).
 وبيان كونِ من لم يكفر الكافر = مكذباً لخبر الله أو مخالفا لقطعي في الشريعة كما يلي:
الله -سبحانه وتعالى- قسّم عباده إلى كافرٍ ومؤمن، فقال سبحانه وتعالى ( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن)  وبيّن في كتابه كُفرَ أفراد بأعيانهم كإبليس وفرعون وقارون، وكُفرَ طوائف كاليهود والنصارى، فمن ردّ هذه الأخبار  وحكم بإيمان من أخبر الله بكفره فقد كذّب خبر الله وجحده، وهذا كفر مُجمَع عليه.
ولذلك؛ تجد أهل العلم قد أجمعوا على كفر من لم يكفر اليهود والنصارى، ثم تجد بعضهم ينص على علة التكفير في ذلك، وهي التكذيب:
v     فقال القاضي عياض رحمه الله في (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) بعد أن ذَكر قول من قال بإعذار بعض النصارى: "وقائل هذا كله كافر بالإجماع على كفر من لم يكفِّر أحدًا من النصارى واليهود، وكلَّ من فارق دين المسلمين، أو وقف في تكفيرهم أو شكَّ. قال القاضي أبو بكر لأنَّ التوقيف والإجماع على كفرهم، فمن وقف في ذلك فقد كذَّب النصَّ والتوقيفَ، أو شك فيه، والتكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا من كافرٍ"[2]
v     ويُصرح  البهوتي -أيضاً- رحمه الله ببيان علة الكفر في هذه الصورة فيقول في شرحه لجُمَل من متن الإقناع:
" ( أو لم يكفر من دان) أي تدين (بغير الإسلام كالنصارى)  واليهود (أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم) فهو كافر لأنه مكذب لقوله تعالى " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " [3]
v     وقد نصّ على هذه العلة في سياق الحديث عن قاعدة من لم يكفر الكافر  غير واحد من أهل العلم من المعاصرين كالشيخ ابن سعدي وغيره.
وهذا المناط هو  أضبط ما يُمكن أن تُعلّق عليه قاعدة من لم يُكفر الكافر.

المتوقف في بعض الأعيان المنتسبين للإسلام لشبهة لا يتحقق فيه مناط القاعدة
يُبنى على المناط المذكور أن من توقف في كفر من تلبس بعمل كفري ممن يشهد بالشهادتين لظنه وجود معارض -معتبر- في حقه فإنه لا يكون مكذباً بالنص ولا مخالفا لقطعي من قطعيات الشريعة؛ فلا يكفُر؛  لأننا نعلم يقينا أن الشريعة كما جاءت بوصف شيء من الأقوال أو  الأعمال بالكفر فقد جاءت -أيضاً- بقبول عذر بعض من وقع في الكفر، فجِنس الإعذار  لمن وقع في شيء كفري له أصل من الشرع، ومن ثم فقد يقع الخطأ من الناظر في أحوال من وقع في الكفر من جهة إعذاره أو عدم إعذاره، وليس هذا من مواطن التكفير ، بل من مواطن الاجتهاد تارة، و من مواطن مخالفة الحق -دون الوقوع في الكفر- تارة أخرى .
قال ابن تيمية رحمه الله : " وكنت دائما أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال:" إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم فو الله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين ، ففعلوا به ذلك فقال الله له : ما حملك على ما فعلت . قال خشيتك : فغفر له".
 فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد ، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك, وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك؛ والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا"  مجموع الفتاوى (3\231) .

هل يتحقق المناط في من لم يكفر الحاكم بغير ما أنزل الله؟
من لم يُكفِّر الحاكم بغير ما أنزل الله هل يكون مكذباً لقول الله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" فيكون كافراً؟ لأنكم قررتم أن المناط التكذيب؛ أفلا يكون هذا مكذبا أيضاً؟
الجواب في ذلك بأن يُعلَم أن النصوص التي ورد فيها وصف شيء من الاعتقادات أو الأقوال أو الأعمال بالكفر على ثلاثة أنواع:
النوع الأول:  ما ثبت فيه الإجماع  على أن الكفر  المذكور في نصوصه إنما هو الكفر الأصغر.
النوع الثاني: ما وقع الاختلاف بين أهل العلم في تحديد نوع الكفر الوارد فيه هل هو الكفر الأكبر أم الأصغر، أو وقع الاختلاف بينهم في حقيقة الصورة التي ينطبق عليها وصف الكفر  الوارد في النص إن ترجح أن المراد به الكفر الأكبر.
النوع الثالث: ما ثبت الإجماع (القطعي) على أن الكفر الوارد في نصوصه هو الكفر الأكبر.
أمثلة على النوع الأول:
1- قول النبي صلى الله عليه وسلم قال : "اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب، والنياحة على الميت" أخرج الإمام مسلم في صحيحه (67) .
2-  قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جرير المتفق عليه (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) أخرجه البخاري (121) ومسلم (65)
3-  حديث ابن مسعود المتفق عليه (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) أخرجه البخاري (7076) ومسلم (64)
4-  قال البخاري (باب كفران العشير، وكفر دون كفر) ثم ساق حديث (أُريت النار، فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن) قيل أيكفرن بالله؟ قال (يكفرن العشير..) أخرجه البخاري (29)
فهذا نوع من النصوص فيه إطلاق الكفر على أعمال يُقطَع بأنها ليست مخرجة من الملة.
أمثلة على النوع الثاني :
1- قول الله تعالى (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر)
2- قول النبي صلى الله عليه وسلم (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) أخرجه مسلم (82)
3- قول النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) أخرجه البخاري (6104) ومسلم (60)
فهذا النوع من النصوص يختلف العلماء في المراد بالكفر فيه أو يُفصّلون في حالات هذه الأعمال والأقوال.
أمثلة على النوع الثالث:
1- قول الله تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)
2- قول الله تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم)
3- قول الله تعالى (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا)
فالنوعان الأولان من النصوص لا يصح أن يُقال في حق من حمل الكفر الوارد فيها على الكفر الأصغر إنه كافر: إما لأن الإجماع قام على أن المراد هو الكفر الأصغر -كما في النوع الأول- ، وإما لأن الاختلاف وقع بين أهل العلم -المجمع على تقدمهم وفضلهم- في المراد بالكفر فيها -كما في النوع الثاني- وإن كان الراجح في المراد بالكفر في هذا النوع قد يُعلَم بنصوص أخرى -كرجحان الكفر الأكبر في حق تارك الصلاة مطلقاً-
وأما النوع الثالث من النصوص وهو ما كان الإجماع فيها قطعيا يقينيا على أن الكفر فيها هو الكفر الأكبر فإن المخالفة في ذلك كُفرٌ  لأنها مخالفة للأمر المقطوع به شرعاً.
مع التنبيه إلى أنه قد يرد إجماع من العلماء على الحكم بالكفر الأكبر في قضية من القضايا ثم يقع اختلاف فيما بينهم في تنزيل  هذا الحكم على بعض الأعيان ممن ينتسبون إلى الإسلام ويشهدون الشهادتين.
كما في إجماعهم على أن من جحد شيئاً مما أنزل الله فقد كفر  كفراً أكبر مخرجاً من الملة ولكن قد يقع بينهم اختلاف في إعذار بعض من ينتسب إلى الإسلام ممن جحد شيئا من الشرع المقطوع به = لوجود مانع معتبر الأصل في هذا الجاحد.
مثال على عدم تكفير جاحد شيء مقطوع به في الشرع
من يجحد وجوب الصيام -مثلا- لكونه حديث عهد بإسلام لم تتوفر له المدة الكافية لمعرفة وجوبه.. فالجحود لوجوب الصيام كفر مقطوع به، ولكن هذا الجاحد لأجل جهله وعدم توفر الفرصة الكافية لمعرفته ذلك لا يكون حكمه حكم الجاحد لقطعي من قطعيات الشريعة في مجتمع مسلم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله؛ وبالتالي لا يُقال إن من لم يكفره فإنه كافر!  ومثل ذلك ما وقع من قدامة بن مظعون رضي الله عنه حين تأول عدم تحريم الخمر لفهمه الخاطئ لقول الله (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات) فهو ظن أن من كان مؤمنا يعمل الصالحات فإنه لا جناح عليه في تناول الخمر لأن هذه الآية جاءت بعد الآية التي فيها تحريم الخمر. ومع ذلك فإن عمر أقام عليه حد الشرب وجلده ولكن لم يكفره. مع أن إنكار تحريم الخمر كفرٌ لا ريب فيه.. وإنما قلت (بعض) النصوص لأنه ليس كل النصوص التي في النوع الثالث يعذر من تأول تنزيلها على بعض الأعيان.. فلا يصح أن يقال: إن من يعذر النصارى كمن يعذر المنتسب للإسلام ممن جحد شيئا مما أنزله الله جهلاً أو تأولاً.

عوداً على بدء
وبعد هذا الاستطراد نعود إلى السؤال المهم، الذي هو: من أي الأنواع الثلاثة يكون هذا النص؟ (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) ؟
الجواب: أنه من النوع الثاني الذي اختلف العلماء في المراد بنوع الكفر فيه هل هو الأصغر أم الأكبر.
وإن أدنى اطلاع على كلام المفسرين عند تفسيرهم لقول الله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" يبين لك أن قضية ترك الحكم بما أنزل الله من القضايا التي اختلف العلماء في نوع الكفر فيها هل هو الأكبر أم الأصغر، - وليس المقام هنا مقام تفصيل في الراجح وأدلته -.
ولأجل شهرة الخلاف في ذلك في جُل كتب التفسير أكتفي بنقل واحد عن إمام المفسرين ابن جرير الطبري حيث يقول في تفسيره لها (8/456)[4]
"وقد اختلف أهل التأويل في تأويل الكفر في هذا الموضع" ويقصد بأهل التأويل: علماء التفسير، ويقصد بقوله: اختلفوا في تأويل الكفر أي: في تفسيره، فإنه يُطلِق التأويل ويريد به التفسير.
ثم ذكر أقوالا لأهل العلم في ذلك، منها: أن المراد كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق.
ومن أشهر ما يُنقَل في تفسيرها: ما روي عن ابن عباس أنه قال: كفر دون كفر. وقولُ طاوس: ليس بكفر ينقل عن الملة.. وليس المراد ذِكر ثبوت هذا عن ابن عباس أو ضعفه، وإنما المراد أن هذا القول مشهور عند أهل التفسير المعروفين، يتداولونه بينهم بغير نكير، وليس معدوداً في الأقوال الشاذة، وهذا بحد ذاته يعتبر  مؤثراً ومانعاً من أن يكون الخلاف في هذه المسألة ينبني عليه التكفير.
فهل يكفُر المفسرون الذين حملوا الكُفر في الآية على الكفر الأصغر؟

اعتراض
قد يقول قائل: أوافقك على ذلك، ولكن أخالفك في حكم من لم يكفر الذين استبدلوا الشرع بقانون وضعي مخالف للشرع فإن من لم يكفرهم فهو كافر؟
فالجواب:  أن هذا الاستبدال على درجتين:
الدرجة الأولى:  أن يُشرّع الحاكم للناس قانوناً مخالفا لما أنزل الله، فهذا شرك التشريع، قال الله تعالى : "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" وقال سبحانه "ولا يُشرك في حكمه أحدا"، وهذا أشد درجات الحكم بغير ما أنزل الله كفراً.
الدرجة الثانية: أن يستجلب الحاكم قانوناً مخالفا للشرع قام بتشريعه غيره فجعله حَكَماً بين الناس بدلا عن شرع الله، فهذا أيضاً أشد من مجرد ترك الحكم بما أنزل الله وإن كان أخف من القيام بالتشريع الذي هو حق لله سبحانه.
وكلام بعض السلف في تفسير الآية بالكفر دون الكفر  لا يتنزل على هاتين الصورتين
ومع ذلك فإن إطلاق القول بكفر من لم يكفر الواقع في إحدى هاتين الصورتين لا يصح

موانع إطلاق قاعدة (من لم يكفر الكافر) على من لم يكفر المستبدلين للشريعة
1-  عدم تمييز كثير من المتكلمين في هذا الباب بين الصورة التي قال فيها السلف (كفر دون كفر) وبين صورة الاستبدال العام أو التشريع، فيعتمدون على ما حكاه المفسرون في قول الله (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) من أنه الكفر الأصغر لتعميمه على صورتي التشريع والاستبدال؛ فإن كُلّاً من الاستبدال أو التشريع يصح أن تقول فيهما (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) فالجامع المشترك بين كل تلك الصور = هو عدم الحكم بما أنزل الله، فالحاصل أن الاعتماد على كلام السلف والمفسرين في هذه الآية لتعميمه على جميع الصور المذكورة يجعل المأخذ مختلفاً عن مأخذ القاعدة الذي هو التكذيب بالنص فلا يقال هنا من لم يكفر الكافر فهو كافر.
2- أن كثيرا ممن تكلم في هذه الآية قديما وحديثا يعلّقون مناط الكفر في ترك الحكم بما أنزل الله على أمر قلبي  وهو الاستحلال للحكم بغير ما أنزل الله، أو الجحود لحكم الله. وهذا المأخذ يعممه بعض المعاصرين على صور التشريع أو الاستبدال، وهذا موضع اشتباه لدى كثير ممن يتكلم في هذا الباب.
3- وجود من يفتي من أهل العلم الذين عاصروا قضية الاستبدال والتشريع بأنها لا تختلف عن صورة مجرد ترك الحكم بما أنزل الله التي تكلم فيها السلف، وهذا يجعل القضية أيضاً موضع اشتباه.
4-  أن من يُقر بأن التشريع  أو الاستبدال كفرٌ أكبر، قد يتردد في تنزيل الحكم على الأعيان لتعارض الأدلة عنده: فتتعارض عنده أدلة تكفيره، مع أدلة إثبات الإسلام لمن ينطق بالشهادتين ويصلي الخمس، فربما يتوقف، أو يحكم بإسلامه، مع إقراره بأن هذا العمل كفر.


الخلاصة
خلاصة الأمر  أن عدم التكفير هنا ليس للتكذيب بالنص بقدر ما هو التباس في فهم كلام أهل العلم حول النص، أو التباس في مفهوم وحالات الإعذار المتعلقة بالأعيان.
فإن قال قائل: التشريع شرك، والذي يعذر من وقع في الشرك يكفر بعينه، فالذي وقع في الشرك كافر، والذي يعذره كافر أيضاً!
فالجواب: أن مسألة الإعذار بالجهل سنتناولها في مقال خاص بإذن الله فأرجئ الكلام عليها إلى حينه.




[1]  المناط : العلة.
[2] الشفا- ص 846 - ت: عبده كوشك                                                                             
[3]  كشاف القناع عن متن الإقناع (6/171) - دار الكتب العلمية
[4]  ط. عالم الكتب، تحقيق: عبد الله التركي