الثلاثاء، 15 يوليو 2014

سلسلة مقالات مرحلة ما قبل الغلو - (1)

سلسلة مقالات (مرحلة ما قبل الغلو)

(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله، وعلى آله، أما بعد:
لم يعُد من الغريب أن ترى من يأخذ في كل المسائل الفقهية المختلف فيها بالقول الذي فيه التسهيل والرخصة، دون تحقيق أو مراجعة أو سؤال؛ نُفوراً من كلمة (حرام) التي يرى أنها استُعمِلَت بشكل خاطئ في كثير من خطابات الناس الشرعية!
وهذا النّفور قد يحصل من كل لفظ أو مصطلح شرعي يقع في تنزيله على الوقائع تجاوز للحد، كألفاظ: التيسير والرخصة والكرامة والتكفير  والخوارج ونحو ذلك.
والحق في كل ذلك بين الإفراط والتفريط.
ومن هذه الألفاظ الشرعية : كلمة (الغلو) وهي من المفردات الحاضرة في نصوص الكتاب والسنّة وكلام أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، وليست من توليد أعداء الإسلام، ولا من اختراع المشوهين له، نعم.. قد تقع مبالغات في استعمالها وتنزيلها على من لا يستحق أن يوصف بها، ولا شك أن هذه المبالغات كان لها أثر سلبي في معالجة الغلو الحقيقي، ولكن هذا ليس مانعاً من استعمالها على وجهها الصحيح،
وكم من منغمس في أوحال الغلو إلى أذنيه وهو يتبرأ منه بلسانه؛ لأنه لا يرى من النور ما يدرك به أنه في ظلمات، وقد يكون ذلك لسوء النية، وفساد الطوية من صاحبه، وقد يكون بسبب الجهل والإعراض عن سبيل العلم ولو صحت النية.
ولِأجلِ ما أرى من وقوع  كثير من الشباب في الغلو المذموم شرعاً -وأقصد تحديداً: الغلو أبواب التكفير والقتال- بسبب الجهل والتنكب عن سبيل العلم، مع ظني صلاح نيتهم وقصدهم -من خلال معرفة أحوال كثير منهم-  عَمِدتُ في هذه السلسلة إلى مناقشة مسائل أرى أن عدم الانضباط فيها يفتح للشاب باب الغلو على مصراعيه، واخترت لهذه السلسلة عنوان (مرحلة ما قبل الغلو)  لاعتقادي أن تداولهم لهذه المسائل بلا علم قد ولّد لديهم الغلو المذموم. إذْ كانوا قبل الدخول في تفاصيلها بعيدين عن الغلو، و بعد أن دخلوا فيها بجهل واضطراب منهجي تاهت بهم السبل عن سبيل الحق وحادت بهم عن الصراط المستقيم .
فأردت تحرير هذه المسائل، أو ذِكر ضوابط منهجية في بعض ما لم أُحرّره منها للاختصار.
ولم أجعل معيار  اختياري لهذه المسائل: النقل عمن سبقني بالحديث في هذا الباب وإنما اخترتها على حسب ما شاهدتُه ولاحظتُه من تأثر بعض الشباب بها، وأسأل الله العون والسداد.
وإن من المسؤولية  على من أدرك ووعى شيئاً من حقيقة الأقوال المخالفة للشرع  أن يبين ما يزيل اللبس تجاهها حتى لا يتأثر بها ضعيف العلم أو مضطرب الإيمان، وليس هذا خاصّاً بباب الغلوّ  والإفراط، بل هو عام في كل الأقوال المخالفة للشرع سواءً أكانت من جهة الغلو والإفراط أو من جهة التفريط والانسلاخ من أحكام الشرع.
وإن الدين النصيحة، وإنّ في مجادلة ابنِ عباس رضي الله عنه للخوارج ورجوع كثير منهم معه إلى الحق لخير دليل على أثر الحجة والبرهان في رجوع من تأثر بجنس أقوالهم إلى الحق والسنّة.

المسألة الأولى: قاعدةُ (من لم يكفر الكافر فهو كافر)
ذَكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في نواقض الإسلام العشرة: الناقض الثالث: من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر.
وهذا الكلام وإن كان قد اشتُهر عن الشيخ محمد إلا أنه مذكور قبله بقرون، فقد جاء من كلام سفيان بن عيينة كما في كتاب السنّة لعبد الله بن أحمد[1]  ومن كلام أبي زرعة الرازي كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي[2]   ومن كلام محمد بن سحنون المالكي[3] ومن كلام ابن تيمية[4] وغيرهم، ثم اشتهر عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة النجدية.                        
وإني لأجزم أن التعامل الخاطئ مع هذه القاعدة هو من أكبر أسباب الغلو المعاصر في التكفير،
ولذلك سأذكر ضوابط منهجية في التعامل مع هذه القاعدة:
الضابط الأول: هذه القاعدة ليست شاملة لكل أنواع الكفار:
إن حكم هذه القاعدة ليس عامّاً في جميع أنواع الكفار ؛ لأنّ ذلك يستلزم تكفير كل المسلمين بلا استثناء، وهذا لازمٌ فاسد باطل، وإذا كان اللازم فاسداً فإنه يُستدَل به على فساد الملزوم.
v     فإن من المعلوم أن الفقهاء اختلفوا في حكم تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً هل يكفُر أم لا يكفر.
v      ومن المعلوم أيضاً أن جمهور متأخري الفقهاء من الحنفية و المالكية والشافعية رحمهم الله تعالى لا يقولون بكفر تاركها تهاوناً وكسلاً[5]
v     فمن قال بتعميم قاعدة (من لم يكفر الكافر فهو كافر) ممن يذهب إلى القول بكفر تارك الصلاة لزمه تكفير  جمهور فقهاء المذاهب الثلاثة.
v     وإذا صاروا -عنده- كفاراً؛ فيلزمه حينئذٍ أن يستعمل هذه القاعدة، فيُكّفّر من لم يكفّر هؤلاء الجمهور من الفقهاء. وهذا يعني تكفير جميع المسلمين بلا استثناء.
v     وأيضاً، فإن من المعلوم أن السلف قد اختلفوا في تكفير أهل الأهواء، ومن ذلك خلافهم في تكفير الخوارج، وممن اختلف في ذلك: الصحابة، فبعضهم كفرهم وبعضهم لم يكفرهم.
v      فمن قال بتعميم قاعدة (من لم يكفر الكافر فهو كافر) وكان ممن يذهب إلى القول بكفر الخوارج، لزمه أن يكفر من لم يكفر الخوارج من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمة.
v      ويلزمه أن يكفر المحدّثين الذي أخرجوا أحاديث بعض الخوارج في كتبهم -كالبخاري- لأن هذا حكم من المحدث بإسلام من يروي عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من المعلوم أن الكافر لا يروى عنه الحديث!.
v     ثم يلزمه بعد ذلك أن يكفر من لم يكفر هؤلاء المحدثين لأنهم صاروا -عنده- كفارا، وهذا يعني تكفير جميع المسلمين.
إذن؛ فلنتفق -أخي الشاب- أن هذه القاعدة -يقيناً- ليست على إطلاقها، فنحتاج -لزاماً- أن نعرف من الكافر الذي تشمله القاعدة ومن الكافر الذي لا تشمله..
وللحديث بقية بإذن الله في باقي السلسلة ..




[1]   (1/115) ط. دار ابن الجوزي
[2]   فقرة (321) ط.دار طيبة
[3]   الصارم المسلول (ص15 ) ط.المعالي
[4]   المرجع السابق. ص 1108 - 1111
[5]  وإن كان الأرجح من جهة الدليل كفر تاركها ، وعليه قول الصحابة والتابعين.