الثلاثاء، 18 يونيو 2013

مشكلة عدنان إبراهيم مع صحيح البخاري.. رؤية نقدية


بسم الله الرحمن الرحيم 

مشكلة عدنان إبراهيم مع صحيح البخاري.. رؤية نقدية 


شاهدتُ عبر الشبكة خطبةً للدكتور عدنان إبراهيم قدَّمَها تحت عنوان " مشكلتي مع البخاري"  وبعد مقارنتها بسائر خطبه الأخرى ترسّخ لديّ بأن مشكلة عدنان إبراهيم ليست خاصة بصحيح البخاري؛ بل هي مع سائر كتب السنة، وهي مع الأقل صحة من (البخاري) أكبر  وأشد؛ لأن صحيح البخاري يجمع أصح ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ و ليست هناك أي خصوصية سلبية تجعل الإشكالية خاصة بالبخاري وصحيحه، فالأمر متعلق بمشكلة حقيقية لدى الدكتور عدنان إبراهيم مع السنة وروايتها بشكل عام كما سيظهر للقارئ الكريم في تفاصيل هذه الأسطر بإذن الله .

أدوات عدنان إبراهيم في تبرير مشكلته مع البخاري: 

يُفاجأ المشاهد للخطبة بأن من أول ما ذكره عدنان إبراهيم فيها هو إيصال رسالة استبشاع لِمَنْطِقٍ يزعم أنه سائد تجاه صحيح البخاري، وذلك أنه ذكر خبر  المثقف الذي لم يكن مختصا  في العلوم الشرعية، وحصل منه أنه جعل الخطأ في القران أهون من الخطأ في صحيح البخاري،
وعلى قَدر الغرابة في هذا الموقف، فإن تعليق عدنان إبراهيم عليه أشد غرابة، حيث قال ما نصه  عند الدقيقة 8:18 "وفي الحقيقة فهذا منطق سائد وشائع" 

ولا تستحق دعوى شيوع هذا المنطق أن يُرَد عليها بِقَدرِ ما ينبعث التعجب والتساؤل: لماذا يدّعي عدنان إبراهيم شيوع هذا المنطق غير الشائع؟  هل المراد بث الاستنكار  والاستبشاع في أذهان المستمعين بحيث يربطون بين قول المُخالف لعدنان في موقفه من البخاري وبين هذه المواقف (الشائعة السائدة) ؟ 

لم ينته تعليق الدكتور على الموقف، حيث واصل ذاكراً "أن المثقف غير الشرعي طوال حياته إذا سمع ذِكر البخاري سمع بسماعه ألفاظَ العصمة والقداسة والتمام، وأنه يرى الهجوم على من تسول له نفسه التشكيك أو الترديد في حرفٍ من صحيح البخاري فضلاً عن التشكيك بجملة منه!  " 
ربما يكون هذا الفهمُ شائعا بين فئامٍ من العوام وصغار الطلبة وربما بين عدد قليل ممن لهم دراية بالعلم والحديث، غير أن هؤلاء ليسوا وحدهم المخالفين للدكتور في قضية أحاديث البخاري؛ فإن أكثر من يخالفه في هذه القضية مِن حَمَلة العلم والمختصين في علم الحديث -إن لم يكن جميعهم إلا من شذ- يعلمون أن البخاري انتُقِد في مواضع، وأنها انتقادات معتبرة وليس بشرط أن تكون راجحة، ومع ذلك يُخالفون الدكتور في موقفه من صحيح البخاري والذي يختلف عن سائر هذه الانتقادات المعتبرة.

والمراد من الانتقاد في هذه الجزئية أن هذا القول الذي انطلق عدنان إبراهيم منه في خطبته بعد أن أوصل إلى النفوس بشاعته ليس هو الرأي الذي يمثل الثِقَل الحقيقي للمخالفين له في الموقف من البخاري ومن الأحاديث بشكلٍ عام!

ولا عَجَبَ بعد ذلك أن تجد كثيراً ممن يطعن في البخاري وصحيحه وفي السنة وأحاديثها -من المثقفين والشباب- يقولون: "رواة الأحاديث بشرٌ  يصيبون ويخطئون! والبخاري ليس معصوماً، وكل عمل بشري لا بد أن يعتريه نقص" سبحان الله! هل هذا قول مخالفيكم؟ إن كنتم سمعتموه من أحدهم مرة، فإن سائرهم لا يؤمن بهذا أبداً!

ينتقل عدنان إبراهيم بعد ذلك إلى أداة أخرى لتبرير مشكلته مع البخاري: وهي وجود من انتقد صحيح البخاري من كبار الحفاظ، مع أن انتقاداتهم على الصحيح تختلف تماماً عن انتقاداته، وتختلف عن النتيجة التي وصل إليها في الموقف من صحيح البخاري.
فالمتابع لما يطرحه الدكتور يعلم أنه يرد عددا كبيراً من أحاديث الصحيحين ناسباً إياها إلى الكذب أو الدجل دون سير على قواعد علم الحديث المعتبرة - مع العلم بأن هذه القواعد ليست مقتصرة على النظر  في الأسانيد كما قد يظنه البعض، بل تهتم بالمتون- وهذا هو الحد الفاصل بين الانتقاد المقبول والمردود لأحاديث الصحيحين، وهذا إجمال سيأتي تفصيله في باقي أسطر المقال إن شاء الله.

ومن العجيب أن الدكتور في سياق ذكره للأئمة الذين انتقدوا صحيح البخاري خَلَطَ بين من يُعتبر قوله في نقد صحيح البخاري وبين من لا يُعتبر قوله في ذلك.
فقد  ذكر أن الأمة لم تُجمِع على صحة كل ما في البخاري، قال: لأن الأمة ليست فقط أهل السنة، بل فيهم الشيعة الزيدية، والشيعة الإمامية، والمعتزلة، والإباضية، وهؤلاء لا يلتزمون بصحة كل ما في البخاري!
إن من هؤلاء الذين ذكر الدكتور من يُكفر الصحابة فهل ننتظر منهم أن يأخذوا بروايات مَن دونهم مِن التابعين وتابعيهم فضلا عن أن يعترفوا بالبخاري وشيوخه؟! 

مثال آخر: ساق الدكتور كلام الأئمة الذين انتقدوا البخاري بناء على الموازين المعتبرة في النقد والتي سيأتي ذكرها، ولكنه ذكر معهم من قام بانتقاد صحيح البخاري بناء على اختلاف التصورات العقدية وليس على الموازين المعتبرة!!
كالشيخ محمد زاهد الكوثري حيث ذكر عنه أنه حكم بتزييف أربعة عشر حديثاً من أحاديث الصحيحين أو أحدهما؛ لأن ظاهر هذه الأحاديث التجسيم في حق الله تعالى - على حد فهمهما لها -  !
وبما أن المعروف عن تصور الشيخ الكوثري لمسائل الأسماء والصفات أنه على خلاف اعتقاد السلف الصالح من القرون المُفضّلة؛ فمن غير المستغرَب أن يستنكر هذه الأحاديث التي كان الأخذ بها وقت السلف ميزاناً لتمييز أهل السنة عن غيرهم.
فالمعيار الذي نقله الدكتور عن الكوثري إنما هو الحكم على الأحاديث بناء على ما يعتقده المرء ولو كان باطلا! وبناء على ذلك يحق للشيعي الرافضي أن ينكر ما يراه مخالفا لمعتقده في صحيح البخاري, كالأحاديث المعتلقة بعدالة الصحابة وفضائلهم، وللناصبي أن يقول عن حديث أبي سعيد في أن عماراً تقتله الفئة الباغية: إنه موضوع مكذوب، ويصح للجهمي أن يُكذب الأحاديث التي تخالف قوله في الصفات، وهلم جرّاً .. فيصبح حديث رسول الله ألعوبة بين الناس !!


حقيقة مشكلة عدنان إبراهيم مع صحيح البخاري : 

من متابعتي لكثير من طرح الدكتور عدنان ترسخ عندي أنه يحكم بالوضع والكذب على أحاديث كثيرة في البخاري دون أي اعتبار  لموازين علم الحديث، ويرمي بالأحكام تعميماً ومجازفة وبكل جُرأة واستعجال! فالمسألة التي يُقررها ينسف كلَّ ما خالفها من الأحاديث دون تردد أو تأخر أو تلطف في العبارة! كما أشرنا في  الجزء الثاني من الانتقادات عليه في موضوع النسخ، وذلك أنه حين قرر نفي النسخ في القران بدأ يتخلص من لوازم هذا التقرير  من الأحاديث المثبتة له، فقال عن حديث عائشة في صحيح مسلم "كان فيما أنزل التحريم بعشر رضعات.. " إنه موضوع!
 وقال بجريء العبارة في مثال من أمثلة النسخ  "قصص يؤلفونها"! هكذا بالجملة دون تفصيل متعلق بقدر هذه القصص وأسانيدها وفقهها، مع أن من ضمن هذه التي سماها "القصص المؤلفة" حديثاً في البخاري!
هذا مع أن النسخ يؤمن به كافة علماء الأمة قديما وحديثاً إلا قولاً شاذاً مخالفاً لإطباقهم، فالعبرة عند الدكتور في الرد ما خالف فهمه -هو- للشريعة، ثم بعد ذلك لا معنى لورود هذا الحديث الذي يعارض فهمه من إسناد واحد أو من عشرين إسنادا فالقضية لا معنى لها عنده، ولا معنى عنده لإيمان آلاف العلماء على مر القرون بهذه الأحاديث وتنزيههم إياها عن مخالفة الشريعة، فهي بكل سهولة: كذب ودجل ودسائس!! وهذا كما تقدم هو جوهر الفرق بين انتقاداته لأحاديث الصحيحين وبين انتقادات الدارقطني وأمثاله ممن انتقادهم معتبرة. 
وأضرب مثالين على إثبات ذلك من خطبتين من خُطَبِه:
المثال الأول:  تكذيبه أحاديث خروج المسيح الدجال.
المثال الثاني:  تكذيبه أحاديث نزول نبي الله عيسى عليه السلام (وسأشير إلى شيء من التفصيل في هذا المثال عند عنوان "عدنان إبراهيم والإحالة إلى الأشباح" ).
أحاديث خروج الدجال رويت في الصحيحين من رواية عشرين صحابياً، وبعض هؤلاء الصحابة روي الحديث عنهم من أكثر من وجه وطريق.
والنقطة المهمة هنا أن نعلم أنه قلَّ أن يوجد حديث روي في الصحيحين بهذا الكم الكبير من الأسانيد الصحاح، فمِثل هذا الحديث يُعّدُّ من أصح ما في الصحيحين،
وبما أن الصحيحين هما أصحّ الكتب بعد القران، فالنتيجة أن هذا الحديث هو من أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق.
 فإذا كان مثل هذا الحديث بهذه الدرجة من الصحة يقول عنه د.عدنان بلا تردد (إنه كذب) فهل يمكن الاعتماد بعد ذلك على شيء من السنة ؟ الجواب: لا بالتأكيد. 


اضطراب الموازين عند عدنان إبراهيم 


بعض الموازين والمعايير التي يستعملها عدنان إبراهيم تكون معتبرة عنده في بعض المواضيع ثم تختفي فجأة في البعض الآخر!
فعلم الحديث وموازينه يكون حجة في أمور، وصِفراً في أمور أُخَر !
ومعارضة الحديث بما هو أصح منه تُستعمل مرةً وتُهمَل أخرى!
وهكذا في خطبتنا هذه حكّم ميزاناً كان يُهمله ويناقضه دائماً !
فالمتابع لخُطَب د. عدنان إبراهيم يرى بجلاء استسهاله تجهيلَ مئات العلماء من الفقهاء والمحدثين والمفسرين بعبارات شديدة جدا، وكثيرا ما يمارس هذا التجهيل بشكل تعميمي مُزعِج يُشعرك أنه هو وحده الذي أدرك المسألة التي يتحدث عنها!
إلا أنه -وللمفارقة العجيبة- في خطبته هذه يعكس القضية بشكل غريب حيث قال ما نصه عند الدقيقة 34:46 "من قال بأن من رد حديثاً في البخاري أو مسلم فقد رد على رسول الله، ...، أقول : فهذا جاهل جهالة غليظة لأنه جهّل معظم من سنذكر، بل كل من سنذكر من العلماء الرادين لأحاديث في الصحيحين، وغير الصحيحين مما صح وهم بالعشرات" 
عجباً يا دكتور، تقول عنه جاهل جهالة غليظة لأن قوله يؤدي إلى تجهيل عشرات العلماء ممن انتقدوا أحاديث في الصحيحين! إذن بماذا تصف من يقول عن معظم أهل السنة والجماعة بأنهم يدّعون التحريف في كتاب الله كما ذكرتَ ذلك في خطبة "لا نسخ في القران" ؟ وبماذا تصف من يقول كَذَبنا على أنفسنا أربعة عشر قرناً ؟!! 

الانفصال بين الألباني وعدنان إبراهيم في الموقف من البُخاري!

أشار عدنان إبراهيم في هذه الخطبة إلى أن الألباني وافق على كلام الغماري الذي ذكر فيه "أن من أحاديث الصحيحين ما يُقطع ببطلانه" وأنه دعى إلى "عدم التهيب من الحكم عليها بالوضع". وعند التحقيق فليس كلامُ الألبانيِّ صريحاً في موافقة الغماري على كلمة (الوضع) بعينها، فإن الغماري ذكر في سياق كلامه أكثر من جملة، منها: أن الإجماع لم يقع على صحة كل ما في الصحيحين، وعبارة الألباني جاءت في ختام هذه الجُمَل، وهي تنطبق على الجملة المتعلقة بالإجماع ؛ فإن نص كلام الألباني في الموافقة هو :
 "وهذا مما لا يشك فيه كل باحث متمرس في هذا العلم، وقد كنتُ ذكرتُ نحوه في مقدمة شرح الطحاوية "انتهى.
 والذي يدل على أن موافقة الألباني لكلام الغماري ليست فيما يتعلق بالموضوعات ما يلي : 
1-  قوله : وهذا لايشك فيه (كل) باحث متمرس في هذا العلم. وهذه العبارة لا يمكن أبداً أن تنطبق على ادعاء وجود موضوعات في البخاري، ودونك أيها القارئ الكريم أيَّ باحثٍ متمرس في هذا العلم - الذي هو بالطبع علم الحديث- فسَلْه: هل يخفى عليك وجود موضوعات في صحيح البخاري؟ ثم لتنظر: هل عبارة الألباني تنطبق على الإجابة بـ"نعم" عن هذا السؤال كما فهمها عدنان إبراهيم؟ أم على عدم ثبوت الإجماع على صحة (كل) حديث في الصحيحين؟ فإن كل باحث متمرس في علم الحديث لا يخفى عليه وجود بعض الأحاديث اليسيرة المنتقدة فيهما وأنها مستثناة من الإجماع المنقول على صحة ما في الصحيحين.
2-   الألباني رحمه الله ضعّف أحاديث في الصحيحين، وقد تُتُبِّعَت هذه الأحاديث وجُمعت، ووقفتُ على رسالة مُصنّفة في جمع هذه الأحاديث وكلام الألباني عليها، وليس فيها شيء حكم عليه بالوضع وإنما بالضعف، ولن يترك رحمه الله الأحاديث الموضوعة دون بيان ليتجه إلى بيان الأحاديث الضعيفة!
3- أن الألبانيّ أحال في الكلام السابق في تعليقه على الغماري إلى مقدمة الطحاوية وعند مراجعة المقدمة لم أجد فيها أي إشارة لقضية الموضوعات في البخاري.
4- دائما تجد لُغة الألباني في نقد البخاري خفيفة ومشيرة إلى محدودية وخفة الانتقادات عليه، انظر مثلاً قوله "واعلم أن صحيح البخاري مع جلالته وتلقي العلماء له بالقبول كما سبق ذِكره في المقدمة فإنه لم يسلم من النقد من بعض العلماء وإن كان غالبه -أي غالب هذا النقد- مجانبا للصواب" مقدمة مختصر البخاري للألباني جزء2 ص4.
 وقال : "أعود إلى أحاديث هذا الصحيح (يقصد البخاري) فأقول،...، الباحث الفقيه لا يسعه إلا أن يعترف بحقيقة علمية عبر عنها الإمام الشافعي رحمه الله فيما روي عنه من قوله "أبى الله إلا أن يتم كتابه" ولذلك أنكر العلماء (بعض الكلمات) وقعت (خطأ) من أحد الرواة في (بعض) الأحاديث الصحيحة" مختصر البخاري 2/6

وكما أن الدكتور نَقَل موافقَة الألباني للغماري؛ فمن اللطيف أن يُعلَم أن الألباني رحمه الله انتقد الغماري على تضعيفه لأحاديث صحيحة، فقال في مقدمته لمختصر البخاري 9/2 "وقريب من هؤلاء بعض المشتغلين بهذا العلم، إلا أنهم لغَلَبَة التعصب المذهبي عليهم، وتمكن الأهواء منهم فإنهم في كثير من الأحيان يُضعفون الأحاديث الصحيحة، كالشيخ الكوثري، وعبدالله الغُماري، وأخيه الشيخ أحمد"
وهاهنا تنبيه مهم من الألباني يوضح الفرق بين انتقاداته على الصحيح وبين انتقادات عدنان إبراهيم، وهو تنبيه في غاية الأهمية ، وفي نظري أن جزءا كبيرا من هذا الكلام ينطبق على د.عدنان إبراهيم تماماً!
قال الألباني "وفي مقابل هؤلاء بعض الناس ممن لهم مشاركة في بعض العلوم، أو في الدعوة إلى الإسلام – ولو بمفهومهم الخاص – يتجرؤون على رد ما لا يعجبهم من الأحاديث الصحيحة وتضعيفها ولو كانت مما تلقته الأمة بالقبول، لا اعتماداً منهم على أصول هذا العلم الشريف وقواعده المعروفة عند المحدثين، أو لشبهة عرضت لهم في بعض رواتها، فإنهم لا علم لهم بذلك، ولا يقيمون لأهل المعرفة به والاختصاص وزنا، وإنما ينطلقون في ذلك من أهوائهم، أو من ثقافاتهم البعيدة عن الإيمان الصحيح القائم على الكتاب والسنة الصحيحة، تقليدا منهم للمستشرقين أعداء الدين، ومن تشبه بهم في ذلك من المستغربين أمثال أبي رية المصري ، وعز الدين بليق اللبناني .." مقدمة مختصر صحيح البخاري2/8 

 الفرق بين نقد أئمة الحديث لبعض أحاديث البخاري وبين نقد عدنان إبراهيم :

وإذا أردتُ أن أُجمل ذِكر الفروق بين انتقادات الدكتور عدنان إبراهيم وبين انتقادات المحدثين على البخاري، فسأذكرها في ثلاث نقاط: 
1-  هم ينطلقون من قواعد علم الحديث في انتقاداتهم وهو لا ينطلق منها. (مع التأكيد المتكرر على أن قواعد علم الحديث لا تقتصر على النظر في الإسناد)
2-  هم لا يقللون من قدر صحيح البخاري لا تصريحا ولا تلميحاً، وهو يقلل من قدره في مواضع من خُطبه وذلك بأسلوبه وعباراته المصاحبة لردِّهِ لبعض أحاديثهما مع أنه يُصرح بمدح الصحيحين في بعض المواضع وبأن البخاري أًصح كتاب بعد كتاب الله.
3-  هم لم يحكموا على أي حديث في صحيح البخاري بالوضع وهو حكم بذلك في أحاديث كثيرة (وبينّا المُجمل في كلام الألباني)

عدنان إبراهيم والإحالة إلى الأشباح : 

من الإشكالات الواضحة لدى الدكتور عدنان عندما يحكم على حديث بالوضع والكذب: أنه لا يذكر لنا كيف أُدخَل هذا الحديث في صحيح البخاري؟ من الذي وضعه؟
فقد ذكر في خطبته هذه تبرئة البخاري ومسلم من وضع الأحاديث ، قال: وهي مِن وَضْعِ مَن وَضَعَها ! عجَباً! نحن نريد هذا الذي وضعها. ألا يستطيع الدكتور إظهاره؟ أم استطاع هؤلاء الوضاعون تجاوز كل أسوار النُقاد والمحدثين وقواعدهم وتدقيقاتهم حتى أدخلوا أحاديث غير قليلة في أصح الكتب دون علم من أحد منهم! بل صدقوها وآمنوا بها عن غفلة وتلقت الأمة هذه الكذبة بالقبول؟ هنا أستعير عبارة الدكتور لأقول : إن القائل بهذا القول جاهل جهالة غليظة لأنه جهّل عشرات بل آلاف العلماء الذين تلقوا صحيح البخاري بالقبول وصدقوا هذه الأحاديث وشرحوها واستدلوا بها!
ولولا خشية الإطالة لذكرتُ بالتفصيل التام مثالاً تطبيقيا على هذه النقطة، غير أني سأذكره على سبيل الإجمال، وهو حديث في البخاري (حديث أبي هريرة مرفوعاً في نزول عيسى عليه السلام) قال عنه الدكتور إنه (فِرية)! وحين نبحث عمّن افترى هذه الفرية فلن نجده أبداً؛ وذلك أن البخاري روى هذه الحديث عن ثلاثة من شيوخه، وروى مسلم نفس الحديث عن اثني عشر من شيوخه، ويرويه الإمام أحمد عن اثنين من شيوخه أو أكثر، ويرويه الترمذي عن شيخه وهو أحد شيوخ البخاري ومسلم في هذا الحديث بعينه، ورواه ابن ماجه عن شيخٍ لمسلم أيضاً، وكل هذه الأسانيد مُثبتة في كتبهم، ثم بعد ذلك روى جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم نفس موضوع الحديث منهم في صحيح مسلم -فقط- أربعة؛ فكيف؟ ومتى؟ تم وضع هذا الحديث في البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه؟ ومن الذي قام بإدخاله في كتبهم على اختلاف بلدانهم؟ وكيف لم ينتبهوا لذلك وهم أئمة النقاد؟
كم هو سهل أن يرمي المرء الكلام جزافا، ولكنه لا يتمشى مع التدقيق العلمي.

لِفَهم منهجية علماء الحديث في انتقاد صحيح البخاري : 

أختم أسطري هذه بأهم ما فيها، وهو ما تمت الإشارة إليه سابقاً من أن انتقادات المُحدّثين المعتبرين لصحيح البخاري تُفهَم تحت المنهجية التالية :

1-  أن الأصل في كل حديث في البخاري الصحة، وأنه يكفي المعرفة بأن الحديث أخرجه البخاري ليُعمَل به.
وبما أن الدكتور عدنان استدل بالألباني في خطبته على شيء من مراده فإني أبتدئ بكلامٍ للألباني تحت هذه النقطة، حيث قال مانصه :
 " حتى صار عرفاً عاما أن الحديث إذا أخرجه الشيخان أو أحدهما فقد جاوز القنطرة ودخل في طريق الصحة والسلامة، ولا ريب في ذلك وأنه الأصل عندنا" مقدمة الطحاوية ص 22 
وقال الجُويني : " لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته = من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق، ولا حنثته ، لإجماع علماء المسلمين على صحتهما " تدريب الراوي 1/142 ط. طيبة 
وقال النووي رحمه الله :
" أجمعت الأمة على صحة هذين الكتابين ووجوب العمل بأحاديثهما "
تهذيب الأسماء واللغات .
2-  أن هذه المكانة لصحيح البخاري ليست لمجرد كون جامع هذا الكتاب مِن أعلم مَن خَلَقَ اللهُ تعالى بالحديث وعِلله وفقهه، ولكن لأن الأئمةَ من أهلِ الاختصاص بالحديث وغيرهم من الفقهاء والمفسرين تلقوا كتابه هذا بالقبول لما فيه. 
3-  أن انتقاد شيء من الصحيح لا بد ألاّ يكون معارضا لقواعد علم الحديث التي هي المعيار في معرفة الصحيح من الضعيف، وليس خفياً على أهل الاختصاص -كما تقدم- أن علم الحديث يهتم بنقد المتن كما يهتم بنقد السند.
4- أن الأحاديث التي انتُقدت على صحيح البخاري عددها قليل جداً بالنسبة لأحاديث الكتاب.
 5-  ليس في صحيح البخاري - جزْماً وقطعاً- أيَ حديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
.6-  أن من استبان له من أهل العلم ضعفَ إسناد أو رواية معينة أو متنٍ أو زيادةِ كلمةٍ فيها حُكمٌ أو نحو ذلك من صحيح البخاري، وكان حكمه مبنياً على علم ودراية وعقيدةٍ صحيحة غيرَ ضاربٍ بقواعد علم الحديث عرض الحائط = فإنَّ عدَمَ أخْذِه بما استبان له ضعفه لا يكون مِن باب رد سنة النبي صلى الله عليه وسلم بل هو من باب الخلاف المُعتبَر.
7-  أن العلماء الذين نُقِل عنهم أنهم انتقدوا شيئا من صحيح البخاري ليس كل انتقادهم منصبا على المتون أو يعود عليها بالضعف، فإن بعض الانتقادات موجه إلى إسناد معين من أسانيد حديثٍ له أكثر من إسناد بعضها صحيح وبعضها فيه كلام.
وبعضُ الأحيان يكون الانتقاد موجها على جزء من الحديث وليس على أصله.
 8- ليس بالضرورة أن يكون كلام من انتقد شيئا من الصحيح صحيحاً، وكما أنه يوجد من أهل العلم من انتقد البخاري، فإن من أهل العلم من أجاب عن هذه الانتقادات وبين أن الصواب في جمهورها مع البخاري، قال ابن تيمية في الفتاوى "ولهذا كان جمهور ما أُنكر على البخاري مما صحّحه، يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه "مجموع الفتاوى" (1/256) " .

9- لا يجوز أن يكون التضعيف لأحاديث البخاري مبنيا على اعتقاد يخالف اعتقاد أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة، كمن رد أحاديث الرؤية أو الشفاعة أو الصفات بناء على اعتقادات باطلة تتعارض مع هذه الأحاديث، كما أنه لا يجوز أن يكون مُنطَلَق التضعيف والرد لشيء من البخاري مجرد مقاومة هجوم تشكيكي من أعداء الإسلام تعود على خبر ثابت عن النبي بالإبطال. كما حصل مِن رد حديث زواج النبي من عائشة وهي ابنة تسع.
10- استشكال المرء حديثاً لا يكفي للمبادرة بردّه، بل لا بد من النظر في موقف أهل العلم من هذا الحديث وتعاملهم معه، فإن كثيرا من هذه الاستشكالات ليست تخفى عليهم، وأجابوا عنها، ثم إن هناك قبل الرد التوقف، وإرجاء القطع بشيء في الحديث حتى يعيد العالِم المستتشكلُ النظرَ فيما استشكل ويزيد، فإن للصحيح هيبة كما قال الذهبي رحمه الله في ترجمة خالد بن مخلد القطواني في ميزان الاعتدال (1/592)  بعد أن ذكر حديثاً رواه خالد هذا في صحيح البخاري :"هذا حديث غريب جداً، لولا هيبة الجامع الصحيح لعدُّوه في منكرات خالد بن مخلد، وذلك لغرابة لفظه، ولأنه مما ينفرد به شريك وليس بالحافظ، ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد" ط.الرسالة
وقال الألباني في السلسلة الصحيحة  5/326:  " فإن تخطئة الإمام البخاري أو أحد رواته الثقات ليس بالأمر الهيّن"


وبقي في الخطبة مواضع التي تستحق الإلتفات، لعل ما ذُكر هنا يكون دليلاً على ما غاب ذكره، والحمد لله رب العالمين .

29 - 7 - 1434 ه
أحمد بن يوسف السيد
@alsayed_ahmad








الجمعة، 24 مايو 2013

عدنان إبراهيم ودعوى تحريف القران (النسخ).. عرض ونقد



بسم الله الرحمن الرحيم 

 استمعت لكامل خطبة د.عدنان إبراهيم حول إنكار النسخ في القران حتى أُدرك رأيه جيداً، وأقطع الطريق على من لا يجد حجة يقابل بها من يرد على د.عدنان إلا أن يقول: (هل استمعت لكلامه كاملاً) ؟
 أكبر ما يؤخذ على د.عدنان في هذه الخطبة هو ادّعاؤه أن القول بوقوع النسخ في القران هو تحريف للكتاب العزيز مع اعترافه بأن هذا القول هو قول معظم أهل السنة!
ولكَ أن تتصور: ما الذي يبقى لهذه الأمة بعد أن يكون معظم أهل السنة على مر قرونهم من لدن فقهائهم وأئمتهم في القرون المفضلة إلى هذا العصر محرفين للقرآن؟!
أفهم من ذلك أنهم إن تجرأوا على تحريف القران فلن يترددوا في تحريف السنة  فضلاً عن تحريف الفقه ومسائل العلم!
 وليته جعل قول الأمة من قبيل الخلاف السائغ -على الأقل- بل قام بحشد الأدلة الصحيحة (غير الصريحة) والأدلة الضعيفة على فساد وبطلان ووقاحة هذا الرأي المخالف له مايجعلك تعتقد أن قائل هذا القول صبي لم يُميز! مع أنه قد يصف -في موضع آخر- بعض القائلين بهذا القول الذي سفهه بالإمامة والتقدم في العلم والنظر حين يستدل بأقوالهم لرأيه!! 

إضافة إلى أنه قد التزم ببعض اللوازم الباطلة التي نشأت عن قوله هذا في الإنكار، وذلك كمثل ردٍّه للأحاديث التي تخالف هذا الرأي ونحو ذلك، ويكون أسهل شيء عليه هو وصف الحديث الذي يخالفه بالكذِب،
حتى ولو كان الحديث في صحيح البخاري أو في صحيح مسلم، دون اعتبار لإسناده أو موقف أهل الحديث منه، ودون أن ينظر: هل في إسناده مجال لاتهام أحد رجاله بالكذب أم لا! المهم أنه كذب عنده، ثم يصرح بأنه لايدري من يَدُس هذه الأحاديث! ويُبرئ الصحابة من عهدتها ويُحمّل الكذب أيادٍ مجهولة (أشباح) !!
 ولكي أُثبت كلامي السابق سأبدأ بذِكر الاتفاق على أمر النسخ، ثم أذكر تقبيحه للقول  بالنسخ في القران، ثم الأحاديث التي ردها ليستقيم رأيه.
فقد قال الآمدي في الإحكام "اتفق أهل الشرائع على جواز النسخ عقلاً وعلى وقوعه شرعاً، ولم يخالف في ذلك من المسلمين سوى أبي مسلم الأصفهاني"
الإحكام ص 467 ط. ابن حزم
وقال الباجي :"كافة المسلمين على القول بجواز النسخ، وذهبت طائفة ممن (شذّ) من المبتدعة إلى أن النسخ لايجوز"
وذلك في كتابه إحكام الفصول ص 391.
وقال الشوكاني "لا خلاف في جواز نسخ القران بالقران" إرشاد الفحول ص 627 ط.ابن كثير.
وذكرتُ هذا النقل عن الشوكاني لأن فيه ذكر الاتفاق على نسخ شيء من القران لأن موضوع خطبة عدنان إبراهيم عن النسخ في القران، وإلا فإن للشوكاني نقلاً آخر قوياً جداً في موضوع النسخ بشكل عام -وهو شامل لموضوعنا أيضاً- حيث قال "النسخ جائزٌ عقلاً، واقعٌ سمعاً بلا خلاف في ذلك بين المسلمين إلا ما يُروى عن أبي مسلم الأصفهاني فإنه قال: إنه جائزٌ غيرُ واقع، وإذا صح هذا عنه فهو دليل على أنه جاهل بهذه الشريعة المحمدية جهلاً فظيعاً. وأعجبُ من جهله بها حكايةُ من حكى عنه الخلاف في كتب الشريعة،فإنه إنما يُعتد بخلاف المجتهدين لابخلاف من بلغ في الجهل إلى هذه الغاية!"ص609
وأيضاً، فيما يتعلق بنسخ التلاوة في القران : قال البيهقي في السنن (8-211): «آية الرجم حكمها ثابت وتلاوتها منسوخة وهذا مما لا أعلم فيه خلافا" 
لا أريد الإطالة في نقل الاتفاقات فليس الموطن هنا موطن التفصيل في مسألة النسخ، وإنما نريد أن نبين كيف تعاملَ عدنان إبراهيم مع هذا القول؟
هو (يكاد) يعترف في النص الذي سأنقله عنه الان أن أهل السنة مجمعون على وقوع النسخ في القران وإن كان قد لمّح أو صرح بخلافه في موضع آخر.. إلا أنه وبجرأة تكاد تكون منقطعة النظير وصف اتفاقهم هذا بأنه تحريف للقران! هكذا بكل سهولة: أهل السنة متفقون أو يتفق معظمهم على تحريف القران!
حيث ذكر في خطبته بعنوان (لارجم في القران) من الدقيقة (45:07) من قناته على "يوتيوب" ما نصه:
 "الشيعة يدّعون -مُعظم علماء الشيعة- أن التحريف وقع في كتاب الله، لكن -بين قوسين- ومعظم أهل السنة والجماعة من عِند آخرهم يوافقون الشيعة في بعض هذا، ويَدّعون أن التحريف وقع في كتاب الله، خاصة حين يتحدثون عن نسخ التلاوة" 
انتهى كلامه بنصه.
وهذه هي المشكلة أن يصف القول المخالف له بقوله (يدّعون أن التحريف وقع في كتاب الله) و يعضد رأيه بقول الله "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" ! ثم يقول ليس بعد كلام الله كلام لاتقول لي لافلان، لا علان، لا الأمة!
إن الاستدلال بهذه الاية هنا لإثبات أن النسخ ينافي حفظ الله للقران هو تسطيح رهيب للمسألة، وهذه الاية يفقهها كل من قال بالنسخ من العلماء ولم يستشكلها أحدٌ منهم، وكلهم أجمعوا إجماعاً قطعيا على أن تحريف القران كُفر، ولم يقل أحد منهم إن النسخ تحريف! بل أثبتوه وقالوا به!
فهل اتضح الخلل المنهجي في تصويره للقضية؟
إذن، انتهينا الان من نقطتين من ثلاثٍ، فأما الثالثة: وهي رد كل ما يعارض ما ذهب إليه دون أي تحقيق علمي، فبيانها كما يلي:
حديث عائشة في صحيح مسلم الذي فيه نسخ التلاوة والحكم لآية التحريم بعشر رضعات. قال ما نصه (عند الدقيقة 51:46 من المقطع) "هذا مما وضع. تقول إيه؟: وُضع في مسلم؟ ماليش علاقة بمسلم بالبخاري، أنا لي علاقة بكتاب الله، روحوا فتشوا ، هذا كتاب الله ما تلعبوا يا أخي.." انتهى.
ومن اللطيف أن النووي حين شرح هذا الحديث -في مسلم (1452) - ، قال "بعضهم زعم أنه موقوف على عائشة، وهذا خطأ فاحش، بل قد ذكره مسلم وغيره من طُرُق صحاح مرفوعاً من رواية عائشة ومن رواية أم الفضل" ثم ذكر أن بعضهم زعم أنه مضطرب فعلق قائلاً :
"وهذا غلط ظاهر، وجسارة على رد السنن بمجرد الهوى، وتوهينٌ لصحيحها لنصرة المذهب" انتهى كلام النووي.
 قلتُ: ماذا سيقول في حق من قال إنه موضوع!
مثال آخر -وهو أكثر جراءة من سابقه- حيث ذَكر أن قوما يثبتون نسخ الحكم في قول الله في آية الصيام "كما كتب على الذين من قبلكم" وأن مِن صيام مَن قبلنا أنه كان يحرم عليهم إتيان نسائهم ليلة الصيام، وأن هذا منسوخ بآية "أُحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" والرفث هنا الجماع.
وردّ هذا النسخ ثم قال ولكن يُشكل عليه بعض الاثار وأشار إشارة سريعة إليها دون تفصيل.
وهذه الاثار هي التي فيها أن إتيان النساء في ليل رمضان كان محرماً على الصحابة أول الأمر،وأن أناساً كانوا يختانون أنفسهم فيعملونه، كما في نفس الاية "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم"
وبكل سهولة وجُرأة قال عن هذه الاثار "قصص يؤلفونها" !
 أريد تفسيراً علمياً لهذا الخبط العشوائي (وهذا أقل ما يقال بعد هذه الجُرأة على السنة)
من روى هذه الاثار؟ ما أسانيدها؟ ما موقف أهل العلم منها؟ كل هذا لايهمه . هي قصص مؤلفة رضيت أم سخطت، قال "لتتفق معهم قضية الناسخ والمنسوخ" 
وبهذا الكلام تشعر أن المفسرين والمحدثين إما لصوص وإما مغفلون صدّقوا هؤلاء اللصوص. فإن هذه الاثار التي يقول عنها "قصص مؤلفة" مروية من طرق متعددة ، ويذكرها أغلب المفسرين عند الاية، وأخرج بعضها البخاري (4508) بل ويعضدها ظاهر القران "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم"
فما هكذا يكون الإنصاف! وهل هذا هو هدي أهل العلم؟!  إن من أكبر الخطأ أن يكون إثبات المرء لإعماله عقله على حساب نسف عقول وجهود الآخرين.

وبهذا نكون قد انتهينا من الجزء الثاني من هذه الانتقادات.. وسننتقل بإذن الله في وقت لاحق إلى الجزء الثالث مع موضوع جديد.

حرر بتاريخ 15- 7 - 1434
alsayed_ahmad@

الخميس، 23 مايو 2013

خذلان الدين من أصحاب السابقة في الخير: وقفة من قصة الثلاثة الذين خُلّفوا !


بسم الله الرحمن الرحيم 
هذه قصة معروفة لكن فيها لفتة مهمة جداً أرجو تأملها جيداً:
تخلّف ثلاثة من خيار الصحابة عن غزوة تبوك، وفي الميزان العسكري لن يؤثر تخلف ثلاثة في جيش عظيم كجيش المسلمين الذي خرج إلى تبوك، خاصة وأن منهم من هو كبير في السن، ومع ذلك هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع إلى المدينة وأمر الناس بهجرهم خمسين يوماً.
ومن هؤلاء الثلاثة اثنان من أهل بدر الذين هم من أفضل الصحابة إن لم يكونوا أفضلهم على الإطلاق، ولك أن تتخيل من هو بهذه المنزلة من كِبر السن، والبذل للإسلام، والسابقة بالخير، ثم يهجره النبي ويأمر الناس بهجره خمسين يوما!
ولو قارنّا هذا بحالنا اليوم: لوجدنا أن كثيرا من أهل الخير يكاد يُنزه أناسا من أهل السابقة في العلم أو الدعوة أو البذل عن الخطأ المتعمد الفادح تجاه قضايا الأمة ونصرتها، ولايتصور في نفسه أن من له سابقة في مجال علمي أو دعوي أو جهادي قد يقف موقف خذلان يستحق الذم الشديد عليه (بل والهجر) كما فعل النبي مع هؤلاء الذين هم من خيار الصحابة وقاطعهم المسلمون، حتى نزلت توبتهم.
والفرق بين هؤلاء الصحابة الخيار وبين غيرهم أنهم اعترفوا بذنبهم، وتقصيرهم، وبكوا على خطيئتهم،
حتى أنزل الله في حقهم قرانا يتلى إلى يوم القيامة بقبول  توبتهم
 "وعلى الثلاثة الذين خُلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم
وظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا" وكما أن مناَ من يعترف بتقصيره أيضاً ويستغفر الله من ذنبه ، إلا أن من أهل زماننا من لايرى عليه واجباً تجاه قضايا أمته، ومن ثم فلا يعترف بخذلانه ولا بذنبه.
مع أنه ليس فينا من قدم شيئا للإسلام مثل ما قدمه أهل بدر! ثم السؤال: هل مواقفنا في النصرة والخذلان أشد من فِعل الثلاثة أم أخف؟!!!
و بعد كل هذا : فكفى تمجيداً لأناس تمرغوا حتى الثمالة في أوحال الخذلان الواضح البين لقضايا الأمة، مع إصرارهم على ذلك
فكيف وقد جمع بعضهم مع الخذلان وعدم الاعتراف بالخطأ: المحادة للقائمين بالحق؟

فماذا لو كان هؤلاء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؟! هل سيكتفي بهجرانهم؟ الله أعلم لكن العمل  سيء جدا.
إن المنزلة عند الله بالثبات والعمل لا بالألقاب وقول الجماهير.


الاضطراب في الاستدلال بالسنة لدى عدنان إبراهيم..(حديث زُر غِباً..أنموذج)



بسم الله الرحمن الرحيم 


وقفتُ على مقطع للدكتور عدنان إبراهيم لا يتجاوز الدقيقة الواحدة، يتحدث فيه عن أهمية أن يكون الإنسان خفيف الظل على مخالطيه ومن يتواصل معهم حتى لا يكرهه الناس، ثم دعّم هذا الكلام بقوله - نصاً- : 
"النبي لما شاف واحد من الصحابة مش حنذكر اسمه؛ يقولك لك ها.. الشيخ بيطعن فيه بعدين، واحد من الصحابة، إيش أعمل له، ثابت عنه.. كل يوم عند النبي بدو ياكل.. رايح جاي رايح جاي.. طالع نازل..أكل أكل، يا أخي شوف غيري .. النبي يعني.. شوف غيري .. كل عند أبو بكر مرة، عند عمر، عند أبو ذر.. عند أي واحد! فالنبي في الأخير قال له - النبي ما قدرش يتحمل يا أخي، كُل يوم أنت ملازمني_ فقال له: يا أبا فلان: زُر غِباً تزدد حبا.. تعال مرة وغيب مرة.." انتهى كلامه في المقطع.
وله كلام في مقطع آخر يُصرّح فيه باسم الصحابي وهو (أبو هريرة) ، وأقول ذلك لئلا يأتي مُشغّب فيقول: هو لم يذكر اسم الصحابي، فالقضية لا تحتاج إلى معادلة معقدة ولا غير معقدة ليُعرَف الصحابي، فأي بحث عن الحديث سيوصلك إلى أن لفظه (يا أبا هِرّ -أو يا أبا هريرة- زُر غبا تزدد حبا)

وزيادة على ما في المقطع من تهجم بغير حق على صاحب من خيار أصحاب رسول الله، إلا أن المقطع -أيضاً- يكشف عن إشكال وخلل منهجي في تعامل د.عدنان مع الروايات، وأُجمِل الإشكالات في أربع نقاط:
1- تصريحه بأن سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة (زر غبا تزدد حبا) هو كثرة تردده لأجل الأكل.
2- ذِكره أن هذا الأثر -بهذا السبب- ثابت.
3- عدم تدقيقه في ثبوت الرواية مع شدة تدقيقه لما يعارض رأيه من أصح الأحاديث.
4- مخالفة منهجه في تضعيف الحديث الصحيح بالروايات المعارضة له.

فأما الإشكال الأول - بل الكارثة الأولى- : فمن أين أتى د.عدنان إبراهيم بأن قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة "زر غبا تزدد حبا" كان بسبب كثرة  تردده على بيته ليأكل؟
بحثتُ في الكُتِب التي أخرجت حديث "زر غبا تزدد حبا" وقلبتُ في الروايات فلم أجد حتى ساعتي هذه رواية واحدة صحيحة ولا ضعيفة فيها أن سبب الحديث موضوع الأكل!!

والسؤال هنا: من أين جاءت هذه الزيادة؟! ممن أخذها د.عدنان ؟! هل اخترعها؟ أم نقلها عن المستشرقين وأذنابهم كأبي رية؟
 إن كان اخترعها فهذا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم - ولا يصدر منه ذلك إن شاء الله-
وإن كان نقلها عن المستشرقين أو تلاميذهم كأبي رية - وهذا الذي لا أشك فيه- : فهل صار اليهود والنصارى وأذنابهم مصدقين في ذمهم لأصحاب نبينا؟ ثم أليس لديه أدوات لاختبارالمعلومات والتحقق منها؟!
على كل حال هذا هو السؤال الذي حيرني كثيراً ولازلت أطلب تفسيراً له من محبيه . 

والإشكال الثاني: فإن حديث "زر غبا تزدد حباً" من أصله ضعيف بكل طرقه وجميع رواياته، وإن حسّنه بعض أهل العلم فإن من ضعّفه منهم أجل قدراً وعِلماً.
فقد قال البزار -وهو من أجلّ من تكلم في هذا الحديث- : (لا يُعلم في "زر غبا تزدد حبا" حديث صحيح) 
<كشف الأستار 390/2 ط.الرسالة>
وذكر العُقيلي -وهو من كبار المحدثين- أنه ليس في هذا الباب عن النبي ‏ﷺ شيء يثبت<الضعفاء الكبير للعقيلي 532/2 ت.أحمد معبد>
ورجّح العُقيلي أن الأصح في هذه العبارة "زُر غبا تزدد حباً" أن عبيد بن عمير ذكرها من قول قائل من العرب.
 الضعفاء الكبير <158/3>
وليس انتقادي موجهاً لمن حسن الحديث أو صححه -وإن كنت أرى خطأ ذلك- لكن الانتقاد لمن يزعم أنه ثابت بالقصة المُصطنعة وهي التردد لأجل الأكل!

والإشكال الثالث وهوعدم تدقيقه في ثبوت الرواية مع تشديده فيما يعارض رأيه من أصح الأحاديث فهذا اضطراب منهجي في التعامل مع الرويات.
وحديث (زر غِباً) : بما أنه بهذه المثابة من الضعف،وقد تكلم فيه علماء الحديث سابقاً؛ فأين ذهب التدقيق في الروايات الذي رد به الدكتور كثيراً من أحاديث الصحيحين؟
وهل لو روي بنفس إسناد هذا الحديث شيءٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم في مدح معاوية رضي الله عنه سيتم قبوله منه؟ أم سيرده في وجه صاحبه مع أبشع الألفاظ وأقسى العبارات؟! لا أرجم بالغيب، لكن أترك مجال الإجابة لمن يعرف رده لأصح الأحاديث بأتفه الحجج إن عارضت ما يذهبُ إليه !

والإشكال الرابع وهو أن من عادة الدكتور عدنان أن يُفتش عن كل ما يمكن أن يعارض الأحاديث الصحيحة التي يردها ليدعم رأيه، بينما لم يصنع شيئا من ذلك في هذه الرواية التي يعارضها أكثر من دليل صحيح!

فالمعروف أن أبا هريرة لازم النبي ‏ﷺ لأجل الحديث، وقد شهد له بذلك فقال "ماكنت أظن أن يسألني هذا السؤال أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث".كما في صحيح البخاري "٩٩"
ثم لماذا يُهمل الرواية الصحيحة في أن أباهريرة كان يخر في المسجد من الجوع، وذلك لانشغاله بملازمة النبي ‏ﷺ عن الصفق بالأسواق؟!
ثم هل كان بيت النبي ‏ﷺ معروفاً بأنواع الطعام الشهي حتى يُسيل لعاب أبي هريرة بزعم عدنان إبراهيم ؟ أم أنه عُرف بعكس ذلك؟

وأيضاً هل كان النبي ‏ﷺ ينزعج من أبي هريرة أم كان يفتقده حتى وهو جُنُب، كما في الحديث الصحيح "أين كنت يا أباهر" قال "كنت جنبا فكرهت أن أجالسك" فقال "المؤمن لاينجس" ؟!!
ثم إني لا أعرف من سيرة النبي ‏ﷺ أنه كان ينزعج ممن يطلبه شيئاً من المال، فهل سينزعج من صاحبه الملازم له بسبب الأكل؟
ثم إن في تصويره لأبي هريرة بهذه الصورة الدنيئة مخالفةً صريحة لدعاء النبي‏ ﷺ له بقوله "اللهم حببه إلى عبادك المؤمنين" كما في صحيح مسلم 2491
فالنبي ‏ﷺ يدعو الله بأن يُحبب عبده أباهريرة لعباده المؤمنين، و عدنان إبراهيم يُصور أبا هريرة بصورة المزعج للنبي بسبب بحثه عن الأكل في بيته!


اللهم إنا نحب أبا هريرة ونشهد أنه كان أمينا على سنة نبيك صلى الله عليه وسلم,

حرر بتاريخ 13-7-1434 هـ 
وتمت التعديل فيه والزيادة عليه في تاريخ
17 - 10 - 1435 هـ
alsayed_ahmad@

الخميس، 14 مارس 2013

الإجابة عن الاعتراضات المثارة حول عقوبة الردة في الإسلام

"الإجابة عن الاعتراضات المثارة حول عقوبة الردة في الإسلام"
حين يُجمِع علماء المسلمين على مر قرون العلم ومن مختلف المذاهب وفي عصور حُكمية وسياسية متنوعة -كما سأثبت هذا الإجماع علميا بإذن الله- على أن الردة عن الإسلام جريمة يعاقب عليها القانون الإسلامي  تنبعث بعض التساؤلات تُجاه هذا الموقف منهم!
هل يا تُرى خفي عليهم -جميعاً- قول الله تعالى: ﴿لَا إِكَرَاهَ فِي ٱلدِّينِ[البقرة:256]؟
هل اجتمع فيهم غياب الفقه الصحيح للقرآن والسنة؟
أم أنهم  أُكرِهوا جميعا من قِبَل أصحاب السلطة في وقتهم على اختراع هذا القول؟
هل غاب عنهم سماحة الإسلام وسعته؟
أو يكون مخالفوهم ممن لا يرون تجريم الردة والعقوبة عليها هم الذين خفيت عليهم باقي الأدلة الشرعية التي تشرح وتبين معنى قول الله ﴿لَا إِكَرَاهَ فِي ٱلدِّينِ؟
هل إحداث القول بإنكار عقوبة المرتد في الشريعة كان نتيجة للضغط الهائل من القِيم الغربية المدنية التي ضُخَّت في مجتمعاتنا الإسلامية خلال قرن ونصف من الزمان؟
أم أن الإنكار حدث حين تم النظر في النصوص الشرعية بطريقة سليمة؟!
لنضع هذه المسألة على طاولة الحوار العلمي الشرعي .
حين تقرأ قول الكاساني من فقهاء الحنفية: «العرب لما ارتدت بعد وفاة رسول الله، أجمعت الصحابةy على قتلهم»بدائع الصنائع للكاساني/كتاب السير/بيان أحكام المرتدين.
ثم تُعرِّج على النووي -من فقهاء الشافعية- إذ يقول عن حديث أبي موسىt، الذي أخرجه مسلم في صحيحه في قتل المرتد: «فيه وجوب قتل المرتد وقد أجمعوا على قتله»المنهاج( 12/207 ط. المعرفة).
ثم تصغي إلى نقل ابن عبدالبر الأندلسي-من فقهاء المالكية- عن الأمة قائلا: «من ارتد عن دينه حل دمه وضُربت عنقه والأمة مجتمعة على ذلك وإنما اختلفوا في استتابته»التمهيد لابن عبد البر (13/88 ط الفاروق).
ثم يشاركهم فقيه الحنابلة في الشام ابن قدامة المقدسي قائلا: «وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين»المغني (12/264 ط.عالم الكتب). 
تلاحظ أن هؤلاء وهم من أشهر فقهاء المذاهب الأربعة كل واحد منهم ينقل إجماع العلماء على تجريم الردة وعقوبتها..
والمراد من نقل هذه الإجماعات شيء مهم جدا، وهو أن الاستشكالات الذهنية التي تواجه بعض المعاصرين في الجمع بين هذا الحكم وبين أصول الشريعة إنما هي في الحقيقة استشكالات وهمية... فإنها لو كانت استشكالات علمية محضة متعلقة بالأدلة الشرعية = لما ظلت خفية مدة اثني عشر قرناً !!
والعجيب أن تجد من يتجاوز مرحلة مخالفة إجماع علماء المسلمين إلى أن يصل إلى تجريم هذا القول الذي اتفقوا عليه !!ولأني مهتم -هنا- بنقاش الإشكالات المطروحة حول عقوبة المرتد، وبتأصيل المسألة؛ فسأركز على النواحي العلمية والدوافع الباعثة على الإنكار، ولست حريصا على ذكر الأسماء، وإن كنت سأنقل تغريدة لأحدهم، وهو دكتور مهتم بقضايا الفِكر حيث كتب على حسابه في تويتر معبّراً عن أسفه لوجود مثل هذا القول في التاريخ الفقهي، قائلا: «ليس حد الردة سوى مصيبة من المصائب الفقهية في تاريخنا التي قاد إليها نبذ القرآن وراء الظهور، وجعل الشريعة خادمة للدولة، بدل العكس المفترض» نشر ذلك على حسابه في تويتر بتاريخ 2 أكتوبر2012.
وهذا الاتهام -غير المقبول- لعلماء الإسلام (الذين أجمعوا على هذا الحكم) بنبذ القرآن وراء الظهور، وبتطويعهم الشريعة للدول الحاكمة: هو نتيجة متوقعة وصل إليها غير قليل ممن يُنكر الأحكام الشرعية التي هي محل إجماع أهل السنة.
إن من أكبر مصادر الإشكالات التي سببت إنكار المحكمات الشرعية هو التهوين من شأن السنة، والظن بأنها قاصرة عن الاستقلال بتشريع بعض الأصول من الأحكام الشرعية مما لم يُذكر في القرآن فتجد كثيرا ممن ينكر عقوبة المرتد ينكر عقوبة الرجم كذلك، ويضيف بعضهم إنكار نزول عيسى بن مريم عليه السلام أو خروج الدجال، وجميعها -عندهم- مما لم يُذكَر في القرآن..
برأيك -أيها القارئ الكريم- ماذا لو أحسن كثير من منكري هذا الحكم الظنَّ بإجماع  علماء المسلمين؟ وبنقلَة الأخبار ممن ثبتت عدالتهم وثقتهم من الذين نقلوا عن النبيحكم قتل المرتد؟
قل لي ماذا لو اجتهدوا في التأمل في حِكمة تشريع هذا الحُكم ومدى اتساقه مع أصول الشريعة الإسلامية والنظر إلى تصور الفقهاء تجاهه؟ 
ألا يؤدي هذا -على الأقل- لأن يكون نَفَسُهم في الخلاف أهون مما هو عليه من اتهام القائلين به بقصور النظر في القرآن أو في الشريعة أو اتهامهم بتطويع الشريعة لأهواء الحكام؟!!
وقد يقوم أحدهم بتشكيل صورة ذهنية -غير صحيحة- لعقوبة المرتد في الشريعة الإسلامية ثم يستبشعها فيرد أصل الحكم، بينما لو تم تصور هذا الحكم بشكل صحيح كما هو في تصور فقهاء الإسلام لَزالت عدد من الإشكالات في هذا..
جمهور الفقهاء يرون أن المرتد قبل أن تُقام عليه العقوبة فإنه يُمهَل وتعرض عليه التوبة لعله يُراجع، وأنه ليس لأي أحد سواء أكان سلطانا أو غيره استغلال هذا الحكم لإفناء من شاء من عباد الله...بل وصفوا حدود الردة وموجباتها وشروط إقامة العقوبة على من تحققت ردته بعد عرض التوبة عليه. والذي يدخل في الإسلام ويعرف حدوده، وأنه الدين الحق، وأن ما سواه باطل موجب لدخول النار، ثم يتركه ويُصر على تركه حتى بعد أن تُعرَض عليه التوبة والمراجعة فإنه قد كشف عن نفس خبيثة دنيئة تضر ولا تنفع...كما أنه يُجرّئ غيره من ضعاف النفوس وممن لا يقوى إيمانهم على صد الشبهات والشهوات على ترك الدين، وقد يكون فتنة لمن لم يدخل هذا الدين حين يرى من أتباعه من يخرج منه طوعا، بينما إقامة العقوبة الشرعية في هذا لها آثار إيجابية عامة كما في سائر الحدود الشرعية..
ربما نحتاج الآن للانتقال إلى أبرز الاعتراضات التي يطرحها منكرو عقوبة الردة في الشريعة الإسلامية..
§                الاعتراض الأول:
إن أول ما ينادي به منكرو عقوبة الردة: هو قول الله تعالى: ﴿لَا إِكَرَاهَ فِي ٱلدِّينِ[البقرة:256]، ثم يقولون إن الآية تتعارض تماما مع قتل المرتد الذي إنما ثبت في السنة. وبناء على ذلك يقولون: "نُقدم القرآن على السنة". وقد سمعت أحدهم في قناة تلفزيونية وهو من أشهر من قال بإنكار عقوبة الردة بدعوى الحرية في الشريعة يقول: "خاصة وأنه -أي قتل المرتد- لم يرد إلا في حديث واحد" مع أنه ثابت في ثلاثة أحاديث في البخاري!!
حسناً.. دعونا نتأمل في هذا سويا..
إذا كان إنكار عقوبة المرتد مبنيا على أخذٍ بظاهر آية من القرآن -دون النظر إلى مجموع الأدلة-؛ فإن هناك -أيضا- آية في كتاب الله Uيتعارض ظاهرها مع فهمهم لآية: ﴿لَا إِكَرَاهَ فِي ٱلدِّينِ، وهي قول اللهY: ﴿سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ[الفتح:16]، بل ما قد يصدم الكثير أن من أشهر الأقوال في تفسير ﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ أن المراد بذلك المرتدين من بني حنيفة وأن المخلّفين عن صُلح الحديبية سيُدعون إلى قتالهم؛ فعلى هذا القول يكون دليل قتل المرتد موجودا في القرآن!
فيُقال لهم: على فهمكم لآية ﴿لَا إِكَرَاهَ فِي ٱلدِّينِ: ما قولكم في قول الله ﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ؟
لأن حقيقة إنكارهم لعقوبة الردة ليس لأنها القتل، وإنما لتعارضها مع مفهوم الحرية الذي ينسبونه للشريعة، والدليل على ذلك أنهم لا ينادون بعقوبةٍ أقلَّ من القتل في حق المرتد، وإنما ينادون بأن الشريعة قد كفلت حق ردته وأنه لا يُتعرض له بأي شيء بسبب هذا الاختيار!!
أما قول الله تعالى ﴿لَا إِكَرَاهَ فِي ٱلدِّينِ، فإن أهل العلم اختلفوا في تفسيره على أقوال شهيرة لا تكاد تقرأ كتابا من كتب التفسير إلا تجدها..
وهذه نماذج من كلام كبار المفسرين تُثبت استقرار الخلاف لديهم في تفسير هذه الآية:
-قال الطبري في جامعه عند تفسير الآية «القول في تأويل قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}..اختلف أهل التأويل في معنى ذلك»تفسير الطبري 4/546 عالم الكتب.
-وقال القرطبي في جامعه أيضا عند تفسير هذه الآية: «اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أقوال»(4/280 ط.الرسالة).
-وقال ابن كثير في تفسيره عندما بلغ هذه الآية: «وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب .. وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال»(1/687 ط. طيبة).
الشوكاني في الفتح وابن عاشور وغيرهما يذكرون الخلاف في تفسير هذه الآية.
فهل الخلاف هنا غير معتبر؟!
وهذه الآية: ﴿لَا إِكَرَاهَ فِي ٱلدِّينِ، عند كثير من المفسرين وأهل العلم محمولة على أخذ الجزية من الكفار وعدم إكراههم على الدخول في الدين إن بذلوها. وهل تشمل كل الكفار أم هي خاصة بأهل الكتاب؟ على قولين مشهورين لأهل العلم فيها. وأيضا، فإن القول بنسخها كذلك منهج مطروق لأهل العلم.
قال الشوكاني: «وقد ذهب إلى هذا -أي نسخ الآية- كثير من المفسرين «فتح القدير (1/470 ط.الوفاء).
ولك أن تقرأ قول إمام المفسرين ابن جرير الطبري فله دلالات مهمة في المسألة، حيث يقول في تفسيره: «المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيهم أنه أَكره على الإسلام قوما فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ومن أشبههم، وأنه ترك إكراه آخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه وإقراره على دينه الباطل وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههم كان بينا بذلك أن معنى قوله {لَا إِكَرَاهَ فِي الدِّينِ} إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية ورضاه بحكم الإسلام» تفسير الطبري (4/554 ط. عالم الكتب).
§                الاعتراض الثاني: 
وأما الاستدلال بقول الله تعالى: ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِنْ وَّمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ[الكهف:29] على الحرية المطلقة في اختيار الدين وتغييره فهذا غريب جدا...وإكمال الآية يبين أنها للتهديد وليست للتخيير، بل من العجيب أن بعض الأصوليين في باب الأمر يُمثل بهذه الآية على ما كان بصورة الأمر (فليؤمن، فليكفر) والمراد به التهديد.
§                الاعتراض الثالث:
تضعيف أحاديث قتل المرتد!
الرسول إذا صدر منه خبر أو أمر أو نهي فإن تصديقه وطاعته من طاعة اللهU وتصديقه. ولا تضارب بين أقوال رسول الله وبين ما جاء في كتاب اللهU. والذين سلكوا مسلك رد أحاديث قتل المرتد من جهة الإسناد تجدهم في الغالب يتحدثون عن عكرمة وهو الذي روى عن ابن عباس حديث (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ).
وقد تقدم معنا قول أحد مشاهير منكري قتل المرتد حين يذكر أنه ليس هناك سوى حديث واحد في قتل المرتد ويعني به حديث عكرمة عن ابن عباس (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ)، فإسقاطه يعني انتفاء وجود أي حديث يثبت هذا الحكم. بينما قد ثبت في البخاري وجود حديثين فيهما هذا الحكم سوى حديث عكرمة عن ابن عباس:
 -الحديث الأول: وهو أن معاذا حين بعثه النبيإلى اليمن فقدم على أبي موسى، وإذا (رجل عِنْدَهُ مُوثَق، فَقَالَ "مَا هَذَا؟"، قَالَ "رَجُلٌ كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ، ثُمَّ رَاجَعَ دِينَهُ دِينَ السَّوْءِ فَتَهَوَّد". قَالَ -أي معاذ-  "لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ". قَالَ  "اجْلِسْ نَعَمْ"، قَالَ "لَا أجلِسُ حتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ)رقمه في البخاري/6923 وفي مسلم/1733. وليس فيه عكرمة وإنما أخرجاه من طريق يحيى، عن قُرّة بن خالد، عن حُميد، عن أبي بردة، عن أبي موسى.
وأما حديث ابن عباسt الذي رواه عكرمةt عنه عن النبي، وهو (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ)والذي أخرجه البخاري برقم 6922، فإن البخاري لم ينفرد بتصحيح الحديث بل صححه غير واحد من كبار المحدثين معه.
فـالترمذي أخرج الحديث برقم 1458 من طريق عكرمةt أيضاً وقال: «حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم في المرتد».
والدارقطني -وهو من أبرز محدثي الإسلام- أخرج الحديث في سننه من طريق عكرمةt أيضا وقال: «هذا ثابت صحيح»رقمه (3143 ط.المعرفة).
وأما بالنسبة لعكرمة مولى ابن عباس فقد تعقّب كلٌّ من الطبري ومحمد بن نصر وابن منده وابن حبان وابن عبد البر من تكلم في عكرمةt وصنفوا (ألّفوا) في الذب عنه. ذكره ابن حجر في الهدي. ولخص ابن حجر، في نفس الموضع من هدي الساري، التهم الموجهة إلى عكرمةt وفنّدها تفنيداً علميا متيناً ولم يترك طعنا إلا وأتى به ثم أجاب عنه .
وأما ما ورد في الثناء عليه وتوثيقه فهو كثير جدا يطول المقام بنقله كله أو حتى أكثره، فعلى سبيل المثال:
· قال البخاري: «ليس أحد من أصحابنا إلا احتج بعكرمة»هدي الساري(1144 ط.طيبة).
· وقال محمد بن نصر: «أجمع عامة أهل العلم على الاحتجاج بحديث عكرمة واتفق على ذلك رؤساء أهل العلم بالحديث من أهل عصرنا»الهدي(1144 ط.طيبة).
· وقال ابن منده: «أما حال عكرمة في نفسه فقد عدّله أمّة من التابعين منهم زيادة على سبعين رجلا من خيار التابعين»هدي الساري(1145 ط.طيبة).
· وقال إسحاق: «عكرمة عندنا إمام أهل الدنيا(الهدي 1144). وقد تعجب إسحاق بن راهويه وابن معين من سؤال من سألهما عن الاحتجاج بحديث عكرمة!
-الحديث الثاني سوى الذي فيه عكرمةt: هو حديث ابن مسعودt عن النبيقال: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ)أخرجه البخاري/6878 ومسلم/1676 من طريق الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن ابن مسعود .
§                الاعتراض الرابع: 
وللمنكرين اعتراض على كلمة (التَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ حيث قالوا "إن معنى مفارقة الجماعة: الخروج عليها"، فقيدوا بها (التَّارِكُ لِدِينِهِ) واستدلوا بروايةٍ لعائشةtٰ في هذا  الحديث بلفظ "أَوْ رَجُلٍ خَرَجَ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ".
وسنبدأ بالحديث عن رواية عائشةtٰ ثم نتطرق للحديث عن كلمة (الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ).
عائشةtٰ روي عنها هذا الحديث من وجهين:
1/الوجه الأول: أخرجه أبو داود/4353 من طريق إبراهيم بن طهمان عن عبدالعزيز بن رُفيع عن عبيد بن عمير عن عائشةtٰ مرفوعا بلفظ: (لَا يَحِلُّ قَتْلُ مُسْلِمٍ إلَّا فِي إحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: زَانٍ مُحْصَنٍ فَيُرْجَمُ، وَرَجُلٍ يَقْتُلُ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدَا، وَرَجُلٍ يَخْرُجُ مِنْ الْإِسْلَامِ فَيُحَارِبُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولَهُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنْ الْأَرْضِ). وقد أعَلَّ بعض المحدثين هذه الرواية بأن إبراهيم بن طهمان تفرد بهذا اللفظ عن سائر من روى حديث (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ). وقد أرسلت للشيخ المحدث سليمان العلوان أسأله عن هذه الرواية فأجاب: «الرواية الواردة في حديث عائشة "خَرجَ مُحَارِبًا" معلولة، وقد روي هذا الحديث بغير هذا اللفظ، ولعل ابن طهمان رواه بالمعنى، والمحفوظ عن عائشة نحو حديث ابن مسعود«تاريخ السؤال:1 ربيع الأول 1434 هـ .
2/الوجه الثاني المروي عن عائشة: أخرجه الترمذي/4022 من طريق أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن غالب عن عائشة مرفوعا بلفظ: (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ، رَجُلٍ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلامِهِ، أَوْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ قَتَلَ فَيُقْتَلُ).
إذن؛ فحديث عائشة روي بلفظين. قال ابن رجب عند شرح حديث (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ)، في جامع العلوم والحكم: «وبكل حال، فحديث عائشة ألفاظه مختلفة، وقد روي عنها مرفوعا، وروي عنها موقوفا، وحديث ابن مسعود لفظه لا اختلاف فيه، وهو ثابت متفق على صحته».
وأيضا فإن هذا الحديث قد روي من طريق عثمانt عن النبي بهذا اللفظ: (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ، رَجُلٍ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلامِهِ، أَوْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ)، وقد أخرجه الترمذي والنسائي وغيرهما وإسناده صحيح. وكما تلاحظ فإن رواية عثمانt توافق الوجه الثاني من رواية حديث عائشةtٰ.
والتعامل مع رواية (خَرَجَ مُحَارِبًا) لا يكون من ناحية أصولية (حمل المطلق على المقيد) قبل أن يُتحقق ثبوتها إسناديا.
وأما حديث ابن مسعودt، فالذي ذهب إليه جماعة من العلماء أن كلمة (الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ) صفة مبينة لـ (التَّارِكُ لِدِينِهِ) وليست مقيدة لها.. فكل تارك لدينه فهو مفارق لجماعة المسلمين.
-قال ابن دقيق العيد في شرح العمدة عند حديث (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ) وهو أول حديث في كتاب القصاص من عمدة الأحكام: «"الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ" كالتفسير لقوله "التَّارِكُ لِدِينِهِ". والمراد بالجماعة جماعة المسلمين وإنما فارقهم بالردة عن الدين«(2/217ط.عالم الكتب).
-قال ابن حجر في الفتح في شرح الحديث: «فهي صفة للتارك أو المفارق لا صفة مستقلة وإلا لكانت الخصال أربعا«فتح الباري(16/31 ط.طيبة). ولو أردت نقل كلام أهل العلم في تأييد هذا لطال المقام...
فها هي السنة القولية الصحيحة تثبت قتل المرتد، ثم إن النظر إلى صنيع أهل العلم تُجاه هذه الأحاديث يدل على أنهم فهموها بأن الردة الموجبة للعقوبة هي الردة المجردة وإن لم ينضم إليها قتال أو حرب..
-قال الإمام الشافعي في كتابه الأم: «فلم يختلف المسلمون أنه لا يَحِل أن يُفادى بمرتد بعد إيمانه، ولا يُمنّ عليه، ولا تؤخذ منه فدية، ولا يترك بحال حتى يُسلِم أو يُقتل«الأم 6/169.
-وقال بدر الدين العيني: «وقد أجمع العلماء على قتل الرجل المرتد إذا لم يرجع إلى الإسلام وأصر على الكفر«عمدة القاري شرح صحيح البخاري 34/324.
-قال ابن دقيق العيد في الإحكام(2/217 ط.عالم الكتب): «والمراد بالجماعة: جماعة المسلمين. وإنما فراقهم بالردة عن الدين، وهو سبب لإباحة دمه بالإجماع في حق الرجل. واختلف الفقهاء في المرأة«.
وقد تقدم ذِكر شيء من الإجماعات في المسألة، ولن أطيل بذكر مزيد من الإجماعات والتي هي كثيرة في هذا الباب..
إن الإجماع الذي يتوارد على نقله جماعة من العلماء في أوقات مختلفة وبلدان متعددة مذاهب متنوعة من أقوى الإجماعات، وهذا ما ترونه في قضيتنا، ومن يقول برأي (الأغلبية) في الديمقراطية -لو اختارت غير الشريعة- مع أن الأغلبية لاتخلو من جهال وفاسدين ثم يعارض (إجماع) علماء الإسلام فهذا تناقض يحتاج إلى تأمل من فاعله!!
§                الاعتراض الخامس:
يقولون "إن قتال الصحابة للمرتدين، إنما كان لأجل بغيهم وعدوانهم".
إن المنقول عن أصحاب رسول الله في حروب الردة يدل على أن سبب حربهم للمرتدين هو رجوهم عن الإسلام أو عن بعض شرائعه وليس الحرب أو البغي. وهذا جلي في قول أبي بكرt: (وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاة). واعترض عمرt على قتاله لمن يقول منهم "لا إلٰه إلا الله"، ولم يعترض على قتاله لمسيلمة ومن معه ممن لا يقولها. وهذا دليل على موافقة عمرt ابتداء لقتال المرتدين من أتباع مسيلمة، وإنما استشكل قتال من يقول "لا إلٰه إلا الله" من مانعي الزكاة الذين لم يتبعوا مسيلمة على نبوته الكاذبة؛ فلو كانوا بغاة، فهل سيتشكل عمرt قتالهم لأنهم يقولون "لا إلٰه إلا الله"؟!!
ثم إن عمرt بعد ذلك وافق أبا بكرt في قتال من قال "لا إلٰه إلا الله"وهذه القصة بينهما في صحيحي البخاري/1399ومسلم/20.
§                الاعتراض السادس:
ما نُقل عن عمرt في عدم القول بقتل المرتد بما رواه عنه أنس بن مالك كما سيأتي.
وقبل ذِكر الأثر عنه، فإن رجوع عمرt إلى قول أبي بكرt في قتال المرتدين -كما تقدم- ، وقبل ذلك عدم اعتراضه عليه في قتال المعلنين ردتهم، يدلٌّ على أنه يرى قتال المرتدين، وهذا يُعين على تَفَهُّم ما نُقل عنه في قصة اعتراضه على المسارعة بقتل المرتدين بعد ذلك في خلافته بقوله -كما رواه أنس- : ("لأن أكون أدركتهم كَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُقال -أي أنس بن مالك-: "قلت له: وَمَا كَانَ سَبِيلُهُمْ لَوْ أَخَذْتهمْ إلَّا الْقَتْلَ؟"، قال: "كُنْت أَعْرِضُ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْبَابِ الَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ، فَإِنْ فَعَلُوا قَبِلْت ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا اسْتَوْدَعْتهمْ السِّجْنَ")، فإن هذه القصة مُجملة تُحمل على الاستتابة وليس على نفيه قتل المرتد.
وقبل أن أذكر من كلام أهل العلم ما يُثبت هذا، فأحب أن أسأل من يستدل بهذا الأثر على إسقاط عقوبة الردة: هل ستقوم بمثل ما فعل عمر وترى أن عقوبة المرتد السجن؟ أم أنك تخالف عمرt في أصل تجريمه لقضية الردة وكونها شيئا يُعاقب عليه صاحبه؟!
قال الإمام ابن عبد البررحمه الله معلقا على قصة عمرt: «يعني استودعتهم السجن حتى يتوبوا، فإن لم يتوبوا قتلوا. هذا لا يجوز غيره لقول رسول الله(مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ)«الاستذكار 7/154.
والذي يدل على أن مذهب عمرt قتل المرتد، إضافة إلى قصته السالف ذكرها مع أبي بكرt: الإجماعات التي نقلها أهل العلم وعدم استثنائهم أحدا...بل ونصهم على عمرt من ضمن القائلين بالإجماع كــــابن قدامة في المغني..
إلا ما روي عن ابن حزم حين نقل الإجماع وذكر استثناء بصيغة ضعيفة لم يُوافق عليه فيما أعلم .
§                الاعتراض السابع:
وأما الاعتراض بأن إبراهيم النخعي قال في المرتد "يُستتاب أبدا" فإن معنى هذا الكلام ما قاله ابن حجر في الفتح: «والتحقيق أنه في من تكررت منه الردة»اهـ..فتح الباري(16/142 ط طيبة).
أي أن من ارتد ثم تاب قُبلت توبته، ثم إن ارتد فتاب قُبلت أيضا، وهكذا.. ، ويؤيد هذا الفهم أنه قد نُقل عن إبراهيم النخعي بإسناد صحيح قوله بقتل المرتدة وهي امرأة. كما علقه البخاري بصيغة الجزم في صحيحه في باب "حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم". وذكر أسانيد هذا التعليق، ابن حجر في الفتح.
§                الاعتراض الثامن: 
وبعض المنكرين يعترض بأن قتل المرتد لم يُذكر في القرآن مع أن اللهY ذكر الردة كثيرا في كتابه، فيُقال لهم: إن النبي قد ذكر قتل المرتد صريحا، وهذا كاف، فإن السنة حجة، مع العلم بأن عقوبة شارب الخمر لم ترد في القرآن مع ورود تحريم الخمر فيه، وإنما وردت في السنة.
§                الاعتراض التاسع:
ويعترض بعض المنكرين بأن النبي قد ترك المنافقين مع صدور كلام الكفر منهم، فيُقال:
 أولا: الله ذكر في كتابه أن المنافقين يأتون للنبي يحلفون له بأنهم لم يقولوا كلمة الكفر، وهذا يدل على أنهم لم يكونوا يتمتعون بالحرية بمفهومها الذي يريده المنكرون، إذ لو كان لديهم حرية في قول الكفر لما جاؤوا خائفين يحلفون ويتبرؤون.
ثانيا: النبي لم يكن ليقيم الحد بدون بينة، والمنافقون كانوا يُبطنون كفرهم ويلمزون خفية، وإذا جيء بهم فحلفوا أو أظهروا التوبة فإن النبي يتركهم. قال الشافعي في الأم:  «وَقَدْ آمَنَ بَعْضُ النَّاسِ ثم ارْتَدَّ ثم أَظهرَ الْإِيمانَ فَلمْ يَقْتُلْهُ رَسُولُ اللَّهِ وَقَتَلَ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ مَنْ لَمْ يُظْهِرْ الْإِيمانَ».
ثالثا: امتنع النبي عن قتل بعض رؤوس النفاق في وقته لعلة ذكرها، وهي (لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ) فإن الناس يأخذون بالظاهر، وظاهر أحوال المنافق أنه من أصحاب رسول الله، فإذا قتله الرسول فإن الناس سيتحدثون أن النبي يقتل أصحابه بعد أن دافعوا عنه وصار في تمكين، وهذا -لو قلنا بأنه بعد تشريع قتل المرتد- فإنه من باب مراعاة المصالح والمفاسد المعتبرة في الشريعة. وعقوبة قتل المرتد لها خصائص تميزها عن باقي العقوبات المقدرة تظهر من الأدلة الشرعية ومن صنيع أهل العلم، منها عرض التوبة على المرتد بعد التمكن منه.
§                الاعتراض العاشر:
ويعترض بعض المنكرين قائلا: "إن عقوبة الردة تولد النفاق في الناس".
وهذا غير دقيق، فإن النفاق الأكبر كان على عهد النبي، والمنكرون يزعمون أنه في وقت النبي لم يكن هناك عقوبة للمرتدين ولا تجريم للردة المجردة، إذن؛ فلِم ظهر النفاق؟!! أترك لهم التفكير والإجابة. 
وبعد، فقد سرني  مقال كتبه الباحث: أحمد سالم (أبو فهر) بعنوان عقوبة الردة عقلا، يحسن للمهتم مراجعته على الشبكة.